Sunday 12th December,200411763العددالأحد 30 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "وَرّاق الجزيرة"

موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية

المروءة (1)
موّلها وأمر بنشرها: صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز آل سعود
الباحث الرئيسي ورئيس الفريق العلمي: أ.د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
الطبعة: دار رواح للنشر والتوزيع.
قال المتنبي:


وترى المروةَ والفتوةَ والأبوّ
ةَ فيّ كلُّ مليحة ضرّاتها
هُن الثلاثُ المانعاتي لذتي
في خلوتي لا الخوف من تبعاتها

المروءة سمو في الفضائل، وارتفاع إلى أعلى درجات السلم الاجتماعي، وإن التحلي بها ومحاولة اكتساب صفات النبل مطلب من مطالب الذات، التي تحس بوجودها وتقدر مكانتها في المجتمع الذي يثمن عمل المرء ويقدر الفضائل، ويحرص على أن يكون فيه مساحة واسعة للمروءة، ومعالم وإشارات تدل على خصالها ومكانتها، ولهذا عرّف الخليل بن أحمد الفراهيدي -رحمه الله تعالى- (المروءة) في كتابه العين بقوله: (المروءة كمال الرجولية) ومن هنا قال الشاعر أحمد بن محمد الصخري مادحاً:


جمعتَ إلى العُلا شرفَ الأبوة
وحُزتَ إلى الندى فضلَ المروة
أتيتكَ خادماً، فرفعتَ قدري
إلى حالِ الصداقةِ والأخوة

والمروءة خلة إنسانية لا تعترف بالحدود وليست قصراً على الشعوب، ولا حكراً على أمة من الأمم، فالجميع يكبرها، والكل يقدرها ويتحراها، لأنها مطلب إنساني تناسق إليه الطباع السليمة، وتنجذب إليه النفوس الكريمة أياً كان دينها أو لغتها أو ملتها.
إذن فلا غرو أن تكون المروءة (حلية النفوس، وزينة الهمم) لأنها من شواهد الفضل، ودلائل الكرم، وقد سئل أحدهم عن الفرق بين العقل والمروءة فقال: (العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل).
ولما جاء الإسلام لقيت المروءة نصيباً وافراً من عناية الدين الحنيف، وأصبحت قيمة اجتماعية وأخلاقية وسلوكية، إلى جانب القيم الأخرى من إيثار وتواضع ورعاية لحقوق الجار، وحسن المعاملة، وحفظ اللسان، والصبر، والأمانة، وغير ذلك من القيم ومكارم الأخلاق التي بدأ سلطانها يتغلغل في النفوس والعقول، مع ظهور الإسلام، وحملت المروءة في تلك المرحلة ما استقر في نفوس الناس من ظلال المفهوم اللغوي للكلمة، الذي يقوم على آداب نفسانية توقف صاحبها عند محاسن الأخلاق، وتبعده عما يسترذل أو يستنكر أو يقلل من قيمة المرء المعنوية أو المادية، وبذلك كانت المروءة اسما جامعاً للمحاسن كلها، ورمزاً لأشتات المبرّات، ولشوارد المحامد، وشاهداً على كرم الأعراق، وباعثاً على كرم الأخلاق، وأجمعوا على أن الله تعالى جمع متفرقات المروءة في قوله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}، وجمعها النبي صلى الله عليه وسلم على نوع آخر فقال: (من عامل الناس فلم يظلمهم، ووعدهم فلم يخلفهم، وحدثهم فلم يكذبهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته).


والشيبُ للحكماءِ من سفه الصبا
بدلٌ تُنالُ به الفضيلةُ مُقنعُ
والشيبُ زينُ بني المروءةِ والحجا
فيه لهم شرفٌ ومجدٌ يُرفعُ
والبرُ تصحبهُ المروءةُ والتقى
تبدو بأشيبَ جِسمُهُ يتضعضعُ
أشهى إلى الشبابِ من المنى
والغَيُّ يتبعهُ القويُّ المُهرَعُ

والمال ركن ركين في بناء صرح المروءة، لا ليعود بالنفع على صاحبه، بل ليكون عوناً لغيره من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما ينفقون، أو تنقطع بهم السبل فيفتقرون إلى الطعام والمأوى واللباس والمال أيضاً، وعندئذ تكون تربية المال وحسن كسبه وإنفاقه في الخير والجود وبذله للناس الأساس القوي في المروءة، وقد عبّر الشاعر القديم عن ذلك خير تعبير، حين قال مبيناً أن العقل وحده مهما سما لا يقوم مقام المال:


رُزقتُ لُباً ولم أرزقْ مروءتهُ
وما المروءةُ إلا كثرةُ المالِ
إذا أردتُ مُساماةً تقعّدني
عما يُنوّهُ باسمي رقةُ الحالِ

ومما جاء في أمثال المولدين: (نعم العون على المروءة المال)، وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (المالُ في هذا الزمان عزّ للمؤمن)، وقال أيضاً: (المال سلاح المؤمن في هذا الزمان) وذلك لأنه يعين على المروءة، ويقضي حوائج صاحبه، ويصون نفسه عن المهانة، ويجلب له الأنس. ومن جميل الشعر قول يحيى بن
يحيى:


نِعمَ المعينُ على المروءةِ للفتى
مالٌ يصونُ عن التبذلِ نفسَهُ
لا شيءَ أنفعُ للفتى من ماله
يقضي حوائجّهُ ويجلبُ أنسهُ
وإذا رمتهُ يدُ الزمانِ بسهمه
غدتِ الدراهمُ دون ذلك تُرسهُ

فليس على الإنسان، بعد هذا، بأس ولا حرج في أن يسعى إلى جمع المال، لا ليختزنه لنفسه، بل لينفقه في وجوه المروءة والخير، حتى لا يخسر دنياه وآخرته معاً، ويؤول ماله إلى الورثة الذين لن يذكروه بحمدِ ولا شكر، يقول ابن حبان البستي: (الواجب على العاقل أن يقيم مروءته بما قدر عليه، ولا سبيل إلى إقامة مروءته إلا باليسار من المال، فمن رزق ذلك وضنَّ بإنفاقه في إقامة مروءته، فهو الذي خسر الدنيا والآخرة، ولا آمن أن تفجأه المنية، فتسلبه عما ملك كريهاً، وتودعه قبراً وحيداً، ثم يرث المال بعد من يأكله ولا يحمده، وينفقه ولا يشكره، فأي ندامة تشبه هذه، وأي حسرة تزيد عليها؟).
ويجب على المرء أن يراعي أن قيمته ليست فيما يملك من الأموال، وإنما الأموال تزيد في مروءته إن هو استغلها فيما ينبل به، وتحمد خلاله وخصاله، لا أن يتكبر على الناس بما آتاه الله من حطام الدنيا، فالصبر على الفقر مع احتساب الأجر خير من المال مع البطر والكبرياء.
والتحلي بالمروءة على أكمل وجوهها ليس بالأمر السهل، ولا بالسبيل الميسور، لأن أعباءها المادية والمعنوية كثيرة، ومؤونتها شديدة، وهي مرتبة اجتماعية وأخلاقية سامية يتطلع إليها الناس جميعاً، ولكن دونها خرطُ القتاد، والجهد المتواصل، والسعي الحثيث، ولله در المتنبي حين قال:


لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُهمُ
الجودُ يُفقرُ والإقدامُ قتّالُ

ولهذا السبب قال الماوردي: إذا كانت مراعاة النفس على أفضل أحوالها هي المروءة، فليس ينقاد لها مع ثقل كلفتها إلا من تسهلت عليه المشاق، رغبة في الحمد، وهانت عليه الملاذ، حذراً من الذم، ولذا قيل، سيد القوم أشقاهم. ولولا ما في المروءة من حمل شديد، وعبء ثقيل، وعجز عن المعالي، وعن مساواة ذوي المروءات، لسمت إليها همم الصغار، وطمع فيها من ليس له مطمع، وعندئذ تفقد ألقها، ويخبو بريقها ولمعانها، وتسقط منزلتها، وفي هذا السياق يقول خالد بن صفوان: (لولا أن المروّة اشتدت مؤونتها، وثقل حملها، ما ترك اللئام للكرام منها شيئاً، ولكنه لما ثقل محملها واشتدت مؤونتها، حاد عنها اللئام، فاحتملها الكرام).
وأخيراً فقد كانت أخلاق العرب مناراً يهدي إلى شرائع إنسانية واضحة المعالم في مدرسة السلوك الحضاري من مأثور العرب في جاهليتهم وإسلامهم، حينما زكت أخلاقهم، ونمت فضائلهم، وحسنت شمائلهم، فعلموا البشرية المروءة والفتوة والنجدة والكرم.
عنوان المراسلة: ص.ب: 54753الرياض: 11524


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved