تعتبر ميزانية هذا العام من أهم الميزانيات التي حظيت باهتمام واسع وترقب كبير من قبل كافة شرائح المجتمع المختلفة لكونها تأتي في مرحلة يشهد فيها الوعي التنموي في المملكة ارتفاعاً وتحسناً كبيراً ، ولكونها تأتي بعد عام فيه أغاث الله هذه البلاد بخيرات هائلة نتيجة للارتفاع الكبير في أسعار النفط العالمية .. ولقد كان يوم الأربعاء الموافق 26-10- 1425هـ يوماً تاريخياً عندما أقر مجلس الوزراء الموقر في جلسته التي عقدت برئاسة خادم الحرمين الشريفين الميزانية الجديدة للمملكة العربية السعودية للعام 1425-1426هـ التي بلغ حجمها 280 ألف مليون ريال بزيادة بلغت 50 ألف مليون ريال تتزامن مع بداية خطة التنمية الثامنة وما تحمله من برامج تنموية تهدف إلى تعزيز الاقتصاد السعودي وتحقيق التنمية الشاملة.
ونظراً لخصوصية هذه الميزانية وأهميتها لدى الكثير من المواطنين، فإنه قد يكون من المفيد أن نستعرض أبرز ملامحها لنتعرف على مكامن البعد التنموي الذي تسعى الميزانية لتحقيقه وذلك على النحو التالي:
الميزانية السعودية: ملامح مهمة
لعل من أهم ملامح ميزانية عام 1425-1426هـ قدرتها على تحقيق التوازن بين المصروفات التقديرية والإيرادات التقديرية حيث بلغ مقدار كل منها 280 ألف مليون ريال، مما يعني تجاوز مرحلة العجز في الميزانية التي كانت علامة مصاحبة لميزانية المملكة في السنوات الأخيرة إذا استثنينا ميزانية عام 2000م. وهذا التعادل بين المصروفات والإيرادات بطبيعة الحال يعني قدرة الاقتصاد السعودي على الوفاء بمتطلبات التنمية المقررة دون الحاجة إلى الاقتراض الداخلي أو الخارجي .. ومن الملامح الرئيسية أيضاً:
1- قوة ومتانة الاقتصاد السعودي وقدرته على تجاوز الأزمات الداخلية والإقليمية.
2- قدرة المخطط السعودي على إعادة هيكلة الأولويات تجاه الخدمات الضرورية ذات البعد المستدام خاصة في ظل التركيز على المشاريع التي تهدف إلى استكمال البنية التحتية للقطاعات المختلفة.
3- استمرار حالة الانكشاف للاقتصاد السعودي نتيجة لاستمرار حالة الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للدخل مما يؤكد على عدم فاعلية السياسات الاقتصادية والاستثمارية التي هدفت في السابق إلى تنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على النفط .. وفي اعتقادي أن التقلبات الاقليمية والعالمية التي تدور رحاها بالقرب من الحد السعودي تفرض علينا العمل على اعادة توجيه الاقتصاد السعودي تجاه القطاعات الانتاجية التي يتمتع في الوطن بمزايا نسبية لتساند النفط الخام في الوفاء باحتياجات الوطن ومتطلبات التنمية.
4- على الرغم من توجيه بعض الفائض إلى سداد الدين العام، إلا أن من الضروري العمل على تفعيل دور القطاع الخاص بشكل أكبر في التنمية الوطنية لتخفيف العبء عن القطاع العام ولتمكين هذا الأخير من توفير المبالغ اللازمة لسداد الدين العام حماية للأجيال القادمة التي لا ناقة لها ولا جمل في معظم هذه الديون.
5- عدم قدرة الأحداث الإرهابية التي شهدها الوطن الأبي على التأثير في معطيات التنمية ومنطلقات الاقتصادي الوطني.
الاهتمامات القطاعية في الميزانية السعودية
بالنظر إلى الأرقام التي تضمنتها ميزانية هذا العام وبمقارنتها بما كان في ميزانية العام الماضي، يمكن الوصول إلى بعض الحقائق المهمة التي تشكل في مجموعها التوجه التنموي الوطني. وفي هذا الشأن يمكن إبراز بعض النقاط حول بعض التوجهات التنموية وفقاً لما يلي:
أولاً: التعليم في صلب الاهتمام
شهدت هذه الميزانية استمراراً منطقياً بالاهتمام بقطاع التعليم باعتباره العربة الأكثر فاعلية لتحقيق التنمية المستدامة وباعتباره الوسيلة الأشد تأثيراً في صناعة المستقبل الوطني بمجالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية .. فقد بلغ ما تم تخصيصه لقطاع التعليم العام والتعليم العالي وتدريب القوى العاملة سبعين ألفاً ومائة مليون ريال، بعد أن كان نصيب هذا القطاع في الميزانية السابقة ثلاثة وستين ألفاً وستمائة مليون ريال، كما بلغ المبلغ المخصص في هذه الميزانية للمشاريع التعليمية أربعة عشر ألفاً وستمائة وخمسين مليون ريال. وفي اعتقادي أن الزيادة في نصيب القطاع التعليمي لها العديد من المبررات والأسباب بالاضافة إلى التحسن الكبير في الايراد الحكومي الناتج عن ارتفاع العائد النفطي المصاحب للارتفاع في مستوى أسعار النفط بشكل كبير خلال العام المالي المنصرم. فمن أهم الأسباب الرغبة في زيادة القدرة الاستيعابية للمؤسسات التعليمية بعد أن شهدت الأعوام السابقة تزاحما كبيرا على المقاعد الدراسية وعجز معظم المؤسسات التعليمية بمستوياتها المختلفة عن تحقيق الاستيعاب اللازم مع توفير الحد الأدنى المقبول للعملية التعليمية، والرغبة في تحقيق الاستفادة الكبرى من الأموال المتاحة لتوفير البنية التحتية التي ما زال القطاع التعليمي يشتكي على الرغم من أهميته من تدني مستواها بشكل أصبح في بعض الأحوال خطيراً ليس فقط على مستوى التحصيل العلمي، ولكن حتى على حياة الطلبة والطالبات، والعمل على الحد من حالة الاحتقان لدى طلبة وطالبات المرحلة الثانوية الذين يعانون من مخاوف البقاء في منازلهم ومخاطر البطالة المبكرة نتيجة لعدم قدرة مؤسسات التعليم العالي على استيعابهم في التخصصات المنشودة. ومن الأسباب المنطقية التي تفسر الاهتمام المتزايد بالتعليم بمراحله المختلفة ما يعانيه الاقتصادي السعودي من حالة الاعتماد المتزايد على العمالة الأجنبية بحجة عدم وجود العمالة الوطنية المؤهلة القادرة على تحقيق الإحلال الكامل وبنفس الكفاءة الانتاجية والفاعلية العملية، وعجز مؤسسات التدريب المهني والتعليم الفني عن تسويق مخرجاتها لدى رجال الأعمال في القطاع الخاص على الرغم من الجهود الكيبرة التي تبذل في هذا المساق التدريبي الهام، وبالتالي فإن الزيادة في المبالغ المخصصة ستكون بمشيئة الله تعالى مصدر عون لمسئولي التعليم لتطوير بيئته وتحسين أدواته ليحقق الأهداف الوطنية المنشودة خاصة ما يتعلق منها بمستوى الخريجين ومدى مواكبتهم لمتطلبات التنمية في السوق السعودية.
وعلى الرغم من قناعة معظم المحللين بأهمية التعليم وضرورة دعمه بكل ما نستطيع باعتباره المحرك الرئيس للعملية التنموية، إلا أن هنالك العديد من المخاوف التي ما زالت تحتاج إلى المزيد من العناية والاهتمام من قبل مسئولي التعليم حتى لا تكون الزيادة في مخصصات التعليم عبئاً وطنياً غير مبرر تنموياً .. فمن المخاوف الوطنية في هذا المجال استمرار اهتمام مؤسسات التعليم بالكمية على حساب نوعية المخرجات، مما يؤدي إلى تراكم مخرجات غير مؤهلة، وإلى تزايد الخسائر الوطنية المترتبة على عدم القدرة على تنمية القدرات البشرية الوطنية بما يتوافق واحتياجات التنمية الحالية والمستقبلية، واستمرار الاعتماد على المقرات المستأجرة التي تهدد حياة وسلامة الأبناء والبنات، واستمرار عدم الفاعلية في التعامل مع التوجهات الفكرية غير المنضبطة التي تهدد سلامة الوطن والمواطنين. فهل نشاهد ما يقضي على هذه المخاوف؟ .. نتمنى ذلك.
ثانياً: القطاع الصحي في طليعة الأولويات
من أبرز القطاعات التي حظيت باهتمام خاص أيضاً في ميزانية هذا العام قطاع الصحة حيث بلغ ما خصص للخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية نحو سبعة وعشرين ألفاً ومائة مليون ريال بزيادة بلغت حوالي ثلاثة آلاف مليون ريال عما كان مخصصاً لهذا القطاع في العام الماضي. كما بلغت المبالغ المخصصة للمشروعات الصحية أربعة مليارات وستمائة مليون ريال تشمل انشاء وتجهيز 420 مركزاً صحياً وانشاء ثلاثة وعشرين مستشفى بسعة 3150 سريراً وذلك في مختلف مناطق المملكة. ويأتي هذا الاهتمام المتزايد بالقطاع الصحي نتيجة لرغبة ولاة الأمر حفظهم الله في تأمين العناية والرعاية الصحية اللازمة لمواطني هذه البلاد المباركة، وللحد من الحاجة إلى الانتقال إلى خارج المملكة أو إلى المناطق الكبيرة بحثاً عن العلاج والرعاية المناسبة، ولمواجهة النقص الملحوظ في هذه الخدمات في بعض مناطق المملكة مما يؤدي إلى حرمان البعض من الاستفادة من حالة التنمية الصحية التي تشهدها البلاد خلال الثلاثة العقود الماضية. ولعلِّي بهذه المناسبة أهمس في أذن المسئولين في القطاع الصحي وأشير إلى أن الخدمات الصحية لها صلة مباشرة بحياة الانسان التي حرمها الله إلا بالحق وعليهم بالتالي مسئولية توجيه هذه الأموال الطائلة التي تمنحها الدولة لهذا القطاع تجاه المناطق الأكثر احتياجاً والتي لا يمكن الوصول بحالاتها الحرجة إلى مراكز الطب المتقدم وتوجيه هذه الأموال بطريقة تكفل تقديم خدمة صحية عالية إلى المواطن بعيداً عن الاهتمام بالكم الذي لا يسقط المسئولية الشرعية أو الوطنية عن المسئولين .. كما نحتاج كمواطنين لنا الحق في هذه المبالغ المخصصة للقطاع الصحي إلى تنمية عنصر المراقبة الميدانية على مراكز الرعاية الأولية والصيدليات والمستشفيات خاصة في المناطق البعيدة عن أعين الوزير وكبار مسئولي وزارة الصحة لضمان تقديم الخدمة كما يريدها ولي الأمر حفظه الله لا كما يريدها أصحاب المصالح الخاصة التي تتناقض في بعض جوانبها من المصلحة العامة ومصلحة المواطن السعودي.
ثالثاً: الخدمات البلدية
أيضاً مهمة
بلغ مخصص الخدمات البلدية في ميزانية هذا العام عشرة مليارات وستمائة مليون ريال بزيادة بلغت مليارين ومائة مليون ريال، عما خصص لهذا القطاع في العام الماضي، كما بلغ نصيب المشاريع البلدية الجديدة أو القديمة التي تحتاج إلى دعم تكاليفها سبعة مليارات ومائتي مليون ريال، مما سيحدث نقلة نوعية في مجال السفلتة والانارة والأنفاق والكباري والطرق داخل المدن ودرء مخاطر السيول، بالاضافة إلى سبل التخلص من النفايات. ومما لا شك فيه فإن هذه الزيادة ستؤدي إلى تحسين قدرة البلديات على الوفاء بالتزاماتها تجاه المواطن شريطة توفر الصلاح الاداري والعنصر الرقابي المطلوب وشريطة تحقق التوزيع الجيد لهذه الخدمات على المناطق المختلفة وفقاً لاحتياجاتها ومستوى الخدمات البلدية السائدة فيها. ولعلِّي في هذا السياق أشير إلى أن الزائر لبعض مناطق المملكة يجد أن هنالك فوارق ملحوظة في الخدمات البلدية، إما بسبب كفاءة رئيس البلدية ومن يعمل معه أو بسبب حجم الاهتمام والعناية التي تحظى بها المنطقة في اروقة الوزارة المعنية، وهذا يعني أن من الضروري أن يعاد النظر في هذا الأمر لتحسين مستوى الخدمات البلدية في بعض المناطق التي تعاني من انعدام التخطيط والسفلتة وقلة الرقابة الصحية على المحلات وتدني مستوى النظافة مما يعرض حياة الإنسان وفي بعض الأحوال حتى الحيوان للخطر .. بعبارة أخرى، لا بد لنا من وقفة جادة لتوفير متطلبات الإصحاح البيئي في مناطق المملكة المختلفة وفي مقدمة هذه المتطلبات الخدمات البلدية، فهل يتحقق ذلك؟ الله أعلم.
رابعاً: النقل والمواصلات
بلغت الزيادة التي حظي بها قطاع النقل والمواصلات في ميزانية هذا العام مليارا وستمائة مليون ريال حيث بلغ ما خصص له من الميزانية ثمانية مليارات وثمانمائة مليون ريال بعد أن كان نصيبه في العام الماضي سبعة مليارات ومائتي مليون ريال، كما بلغت تكاليف المشاريع الجديدة لهذا العام سبعة آلاف مليون ريال لتضيف بذلك حرية أكثر للحركة والتنقل بين مناطق ومدن المملكة المختلفة. وفي هذا السياق لا بد من الاشارة إلى أن توفر الطريق الجيد لا يحقق الحماية لحياة الإنسان فقط، ولكنه يحقق الفرصة للمواطن للوصول إلى مواقع الخدمات الأخرى، مما يخفف العبء على الجهات الحكومية المختلفة ويقلل من الحاجة إلى هذه الخدمات في كل قرية ومدينة. ومن هذا المنطلق فإننا نتطلع إلى ان يحظى هذا القطاع بنصيب أكثر وفرة في الأعوام القادمة أو من خلال البرنامج التنموي الاستثنائي حتى يستطيع المواطن الوصول إلى مقر الخدمة وحتى نحقق للقطاع الخاص أدنى متطلباته الضرورية ونحقق للمستثمر الفرصة الاستثمارية التي يمكن الوصول إليها والانتقال منها إلى مواقع التسويق بسهولة عالية. وإذا اضفنا إلى ذلك البعد الاجتماعي والأمني المترتب على تحسين حالة الطرق فإن من الضرورة الوطنية أن نزيد من اهتمامنا بقطاع النقل والمواصلات فهل يتحقق ذلك؟ أتمناه عاجلاً.
خامساً: الماء والحياة
وفيما يتعلق بالقطاعات الأخرى فقد شهدت جميعها زيادة ملحوظة مقارنة بما كانت عليه في العام الماضي، ولعل من أهم هذه القطاعات قطاع المياه الذي يعتبر شرياناً للحياة في هذه الصحراء الشاسعة حيث بلغ المخصص لمشاريع توفير مياه الشرب وتعزيز مصادر المياه وخدمات الصرف الصحي والسدود وحفر الآبار ومحطات التحلية سبعة عشر ومائتي مليون ريال. وإذا كانت هذه المبالغ تعكس الاهتمام الكبير بتوفير المياه للمواطنين فإن من المطلوب ونحن على أعتاب هذه الميزانية أن نفكر كثيراً في المواطن الذي يعيش في أعالي الجبال يحرسها من كل شاردة وواردة، وأن نفكر في المواطن في القرى البعيدة عن مصدر القرار الذي يشرب في بعض الأحوال في إناء مشترك مع دابته لنعيد لهم البسمة ونحقق لهم الحماية اللازمة من الأمراض المصاحبة لحالة التردي في مياه الشرب والغياب الكامل لمشاريع الصرف الصحي، وأن نعيد النظر في آلية متابعة ومراقبة الآبار المفتوحة التي لا تتوفر فيها وسائل الوقاية من التلوث مما يعرض حياة المواطنين للخطر. وفي نظري أننا نحتاج إلى وقفة جادة لمعالجة وضع هؤلاء الذين لهم الحق الكامل في الشرب من المياه التي نشربها والتمتع بالصحة التي ننشدها، فهل تخذ وزارة المياه المبادرة؟ في ظل امكانياتها المتاحة أشك في مقدرتها على تحقيق ذلك.
سادساً وأخيراً
لا بد أن نعي ونحن نستمتع بالنظر إلى الصفر في معادلة طرح المصروفات من الايرادات خطورة الفكر الذي يحلل هذا التوازن على أنه بداية لمرحلة وفرة اقتصادية جديدة، إذ إن جميع المعطيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تقول بأن ما تحقق مجرد قفزة مرحلية يلزم للاستفادة منها حسن التصرف في ما قدمت من وفر مالي مؤقت. لا بد لنا ونحن نناقش أرقام الميزانية أن نعي بأن سياستنا إبان الوفرة الاقتصادية الأولى كانت غير صائبة في معظم جوانبها وبالتالي علينا أن نستفيد من الدرس لنؤكد على ضرورة الاستفادة من هذا الوفر المالي في دعم محركات التنمية المستدامة وفي تحسين البيئة التعليمية والتدريبية للمورد البشري الوطني الذي إذا أُحسن تدريبه وأحسن هو التلقي كان بمقدوره أن يصنع التنمية ويعظم قدرة الوطن على استغلال الامكانيات والموارد المتاحة، ولا بد أن نعي بأن العامل الأجنبي ما زال هو المستفيد وما زلنا في جوانب كثيرة مستهلكين لمعطيات التنمية غير منتجين لها وهذا الوعي فقط هو الذي سيقودنا لصنع القرار التنموي الصائب.
|