إنجاز ووسام يعلق على صدر الوطن يسجل لرجال الأمن الشرفاء مع إنجازاتهم الأخرى عندما حرروا القنصلية الأمريكية في جدة من براثن شرذمة من الفئة الضالة المفلسة في فترة قصيرة لم تتجاوز ساعات قليلة في حين أن دولا كبرى تقف عاجزة أمام الإرهاب، إنه الفخر والشرف، وبكل أسف كنت أتابع القنوات الفضائية في تلك الليلة وسمعت القناة الليبية في نشرة أخبارها تنص على أن تحرير الأبرياء كان بسبب قوى أجنبية شاركت قوات الأمن السعودي الباسلة، ونسي هذا الإعلام المغرض أن وسائل الإعلام كانت تبث من الموقع مباشرة ولم يشاهد أحد ما في هذا العالم جندياً أجنبياً، بل إن فخامة الرئيس الأمريكي سجل شكره الخاص للقوات السعودية التي تعاملت مع الموقف بحزم لا مثيل له، ولم يصب أحد غير أفراد الأمن السعوديين الشرفاء، بعد اعتقال اثنين من المخربين مات فيما بعد أحدهما وقتل ثلاثة آخرون، ليسجل اقتحامهم القنصلية الأمريكية في جدة إفلاسهم وجهلهم بقواعد الشرع المطهر القويم الذي يؤكد ما تعارفت عليه الشعوب قاطبة من احترام السفراء والرسل والمبعوثين وعدّ الإسلام ذلك واجباً على الأمة، وحرم التعرض لهم وإهدار كرامتهم، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرم السفراء ويحترمهم، فقد روى الإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرم رسول قيصر حينما جاء إليه في تبوك، وقال: (إنك رسول قوم وإن لك حقا، ولكن جئتنا ونحن مرملون، فقال عثمان بن عفان أنا أكسوه حلة صفورية، وقام رجل من الأنصار على ضيافته) وكان المصطفى في حالة حرب معهم !! فمن يفقه الهدي النبوي من شبابنا اليوم، وذكر ابن الفراء في كتابه رسل الملوك 37 أن رسولا لبعض الملوك ورد على هشام بن عبدالملك فأعد له وحشد؛ احتراماً وتقديراً لأمته وراءه، وكان المصطفى- صلى الله عليه وسلم - يسمح لسفراء قريش ومندوبيها في صلح الحديبية بالاتصال بقريش ولم يكن يمنعهم من ذلك، مما يؤكد الحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها السفير والدبلوماسي في شرعنا المطهر، روى الإمام أحمد عن نعيم بن مسعود قال: (سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب قال للمرسلين: فما تقولان أنتما؟ قالا : نقول كما قال من أرسلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)، وروى أيضا الإمام أحمد عن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله لا أرجع إليهم قال: (إني لا أخيس العهد ولا أحبس البرد، أرجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع) والبرد: جمع بريد، وهو الرسول كما قال الزمخشري، ولا يمكن للتاريخ أن ينسى تبسم الخليفة المسلم المأمون لسفير الملك ليون لما أساء في حضرة الخليفة، ومنع أصحابه وحرسه من التعرض له، لأنه يجب شرعاً على الإمام أن يحمي سفراء الدول والملوك من آحاد الناس وعامتهم كما بيَّن ذلك الكاساني في بدائع الصنائع والشيرازي في المهذب واحتراماً لهم ولمهمتهم السلمية أعفاهم الإسلام من دفع الرسوم المالية التي تؤخذ من غير المسلمين، قال أبو يوسف في كتابه الخراج 366 (ولا يؤخذ من الرسول الذي بعث به ملك الروم، ولا من الذي قد أعطي أمانا عُشر، إلا ما كان معهما من متاع التجارة، فأما غير ذلك من متاعهم فلا عشر عليهم فيه)، ونص بعد ذلك القانون الدولي على إعفاء المبعوث الدبلوماسي من أداء الضرائب الشخصية والعوائد المحلية مهما كان نوعها.
إن تشويه الإسلام على يد هؤلاء جريمة أخرى إذ يصدون عن سبيل الله بتصرفاتهم غير المسؤولة وما أصدق سيدي عمر حينما قال لسعد في رسالته (واعلموا أني أحذركم أن تكونوا سيفاً على المسلمين وسببا لتوهينهم)، ولا زالت الأمة تدفع فواتير الحادي عشر من سبتمبر التي لم يقتصر عليها من كان وراءها حينما ظهر له أنها لم تكن تحمل طابعاً يشفع لها ضمن ما يسمى بالسياسة الشرعية، بل أخذ يزيد من نار الفتن في المواجهات العالمية ويوقدها بشبابنا المغلوب على أمره، تلك الأحداث التي يبرأ منها الإسلام، لأن أقل ما فيها الخيانة والغدر إذ دخلوا تلك البلاد بأمان من أهلها، ولكنهم غدروا في صورة تتناقض عما فعله الخليفة عمر بن عبدالعزيز عندما شكا له أهل سمرقند أن الجيش الإسلامي دخل بلدهم غدراً، فأمر الخليفة الجيش بالخروج حماية لسمعة هذا الدين الذي يحض على الالتزام بالعهد والميثاق، قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قال ميمون بن مهران في الفخر الرازي من عاهدته وفِّ بعهده مسلما كان أو كافراً فإنما العهد لله تعالى، وقد تحدث العلماء عن نصرة المسلم لأخيه المسلم انطلاقاً من قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قال القرطبي: إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروا عليهم ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.. وروى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)، فما بالكم بعهد يقطعه ولي أمر المسلمين لهؤلاء السفراء والزائرين ثم يأتي من يتعدى عليهم ظلماً وعدوانا وجهلا بمقاصد الإسلام، فقد روى الإمام أحمد في مسنده (المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم)، وقد أقر المصطفى- صلى الله عليه وسلم - إجارة امرأة مسلمة، فقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ.
وليس حراماً الدخول مع تلك الأمم في أحلاف تحتاجها البشرية ولا أدل على ذلك من حضور المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حلف الفضول وقد أقره شرعا بقوله: لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت).
إن الكارثة الكبرى أيضا أن يتصدى من هو غير مؤهل للفتيا والتربية والاجتهاد، وهو شاهد على نفسه بقصر الباع في العلم والسياسة الشرعية ممن لا يتجاوز نظره أرنبة أنفه ليحرج الأمة بحوادث وقلاقل وفتن كانت نائمة لعن الله موقظها من خلال البيانات والفتاوى المذيلة بأسماء مجهولة غير متخصصة لم تشهد ذلك الواقع المملوء بعلماء هم أقدر منه على علاج قضيتهم وأعرف منه بحالهم وحال أمتهم، لأننا نعرف أن الطبيب الفاشل الذي يعالج على الوصف سيؤدي بوصفته تلك إلى انتشار أمراض وبائية أخرى بخلاف الطبيب الذي يشخص المرض ويشاهد الجسد بأم عينيه ويصنع تحليلاته المهمة بنفسه قبل صرف أي علاج، ما هذه الحمى وما هذا الارتعاش وما هذه الحرارة التي تجاوزت المعدلات الطبيعية لجسد كان معافى، من المستفيد؟ ومن المنتصر؟ ومن المهزوم؟ كلنا ضحايا في النهاية، وستفرض علينا الوصايات العالمية ولا نستطيع أن نخرج العالم حينئذ من جزيرتنا، لانها محط الأنظار بما حباها الله تعالى من خيرات معنوية ومادية، ألا سفهت العقول الداعية للمواجهات، وشاهت الوجوه العابثة بمستقبل وطن يرعى الحرمين الشريفين، ويوازن بحكمته وعقله الراجح بين الحوادث الصعبة، والصراعات العالمية ويحاول أن ينجو بهذا الإنسان المسلم وهذا التراب الطاهر من كوارث متحققة الوقوع، وليت أولئك أدركوا أنهم عطلوا سبل الدعوة في كل مكان، وحرموا المسلمين من خيرات الجمعيات التي استغلت خطأ، ثم ماذا استفادوا غير حروب خاسرة ومواجهات عنيفة حرمت المسلمين من الدراسة والعلاج والدعوة.. والله من وراء القصد.
الإمارات العربية المتحدة
|