قد يكون العنوان ذاته دليلاً على تَشرُّب العنف, فماذا لو عبرنا بالرحمة؟!
إن الوصف بالرحمة تعبير متفائل حقاً, ولكنه أقل كفاءة في نقد الواقع وتصويره، لكن دعونا نعترف بأن في العنوان قسوةً أو تعميماً, وأعفونا من البحث عن المعاذير.
حَسنٌ أن نمارس من البداية نقداً, فالكثيرون ضمن مجتمع العنف يمارسونَ قسوةً على الآخرين, ويوزعون المسؤوليات, ويستثنون أنفسهم! إن العاطفة الحية هي المادة الرابطة بين لبنات البناء, وبدونها يقع الاحتكاك وينهار البرج المشيد.
فكيف إذا فُقدت هذه الرابطة, وحل محلها النقيض, وهو القسوة والجفاء؟! ثمت مجالات كثيرة للأذى إذا فقدت القلوب ترابطها... وحتى الأذى الذي لا يستطيع القانون أن يمسك به ولا يدينه؛ لأنه من الخفاء بمكان.
أرأيت لاعب الكرة حين يتلطّف - ويا له من تلطّف!- في تعويق حركة صاحبه, أو إسقاطه دون أن ترصده كاميرات التصوير, أو يلاحظه الحكم؟ إنها القصة التي تتكرر كل لحظة في مكان ما... في البيت, أو العمل, أو المتجر أو ساحة الحياة.
قسوة الصحراء تطبع أخلاقيات المجتمع، فيتعامل الناس كالتروس الصماء, تسمع صرير احتكاكها من مكان بعيد.
لقد وردت كلمة (القسوة) في القرآن الكريم في أربعة مواضع كلها في سياق الذم, وكفى بهذا تنفيراً وتحذيراً.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة:74)، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}(الزمر:22)، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (المائدة:1)، وفي البخاري (أَلاَ إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ...)، وهم أصحاب المال الكثير المختالون الذين تعلو أصواتهم في خيلهم وإبلهم وحروبهم, ونحو ذلك.
وفي حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من القسوة. رواه الحاكم والبيهقي.
وبالمقابل وصف الله ذاته بالرحمة, وكتبها على نفسه, وسبقت رحمته غضبه, والرحمة لا تنزع إلا من شقي, والشاة إنْ رحمتَها رحمك الله, وإنما بعث الله نبيه محمداً رحمة للعالمين.
فالرحمة أسلوب الأقوياء المسيطرين على دوافعهم ونوازعهم.
نحن نتحدث عن مجتمعنا الإسلامي والعربي وفي كل مكان؛ لأننا نحس بمشكلته, وندري فداحة الضرر من تنامي مشاعر العنف فيه أكثر من غيره, وإن كنا ندرك أن العنف أصبح شعاراً معولماً في عالم السياسة, والإعلام, والحركة الاجتماعية.
يجب أن نتصارح؛ لأن بناء المستقبل وصناعته تقوم على الترقي والتصحيح والوضوح في تعرف الأخطاء ومعالجتها.
ويجب أن نستشعر العار من هذه السوءة, ونسمح لها بالرحيل غير مأسوف عليها.
هناك ألوان من العنف تحتاج إلى مبضع الجراح:
أù - فالعنف الاجتماعي، كالعنف ضد المرأة، أو ضد الأطفال، أو ضد الضعفاء، أو الغرباء، أو قيم العنف التي أصبحت ثقافة يتلقاها الناس.
ب ù- وهناك (عنف المثقفين) الذين يقدمون أنفسهم - أحياناً - على أنهم ضحايا العنف، وهم أساتذته.
ج - وهناك في قمة الهرم (العنف السياسي) سواء تمثل في عنف الأنظمة، أو في عنف الجماعات المعارضة.
ولعلي أجد فرصة لشيء من بسط الحديث حولها.
إن الإنسان يقرأ طبيعة البلد من عنوانه, ومن أول وهلة، فموظف الجمارك أو المطار أو رجل المرور أو البائع أو موظف الاستقبال هم النموذج الذي يكوّن الانطباع الأولي عن حالة الناس.
والعنف يتحول إلى قيم اجتماعية مقبولة ومعتادة, وتمارس بصورة طبيعية مثل:
أ - صرامة الملامح والقسمات، وهي حالة نفسية, ولها آثار سلوكية عديدة, وقد يستقر في ثقافة البعض أن قوة الشخصية تعني صناعة الرعب.
وقد قال جرير رضي الله عنه: (ما حجبني النَّبِي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي).
ب - العدوان اللفظي بالأصوات العالية والصخب والضجيج والصراخ, وبالتشاتم والتهديد بالكلام, وحتى عند المواقف العاطفية قد نستخدم لغة خشنة.
أهدت إحداهن لزوجها ساعة.
فسأل: كم ثمنها؟ فأخبرته.
فقال: مضحوك عليك.
(الثمن غالي, وهو ما يغلى عليك).
وأهدى الأخرى زوجُها وردة جميلة؛ فشمتها ثم ألقتها, وقالت: مالها ريحة! وقد قال صلى الله عليه وسلم : (الكلمة الطيبة صدقة).
ج - العدوان ضد الأشياء, فالأبواب تُضرب بعنف, والكراسي والطاولات, والأثاث يُبعثر, والأدوات والكتب, والكتابة العشوائية الرديئة على الجدران والأماكن العامة, وتكسير الأدوات, وتهشيم النوافذ, وإشعال الحرائق.
وهذا مدرج لتكسير القلوب, وتهشيم العواطف, وإشعال الخلافات, وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع السدر لغير مصلحة.
د العدوان ضد الآخرين بالضرب والمهاجمة, أو القتل, وهكذا ما نشاهده في ألعاب السيارات بالتفحيط والسرعة القاتلة.
والعدوان على الحقوق المادية والأدبية للناس, وخاصة ممن نسميهم أحياناً ب(الأجانب), وهم حقيقة إخوة أحبة لهم الحقوق نفسها, والبلد بلدهم، فالسعودية مثلاً تستقبل عشرات الملايين من المسلمين من المقيمين أو الزائرين في حج أو عمرة أو تجارة أو لأي غرض كان...
وهناك ثقافة لدى بعض الشباب, وغير المتعلمين, وربما تمتد لمثقف أو مسؤول تقوم على نظرة ازدراء وتهميش واستخفاف بهؤلاء, فليس لهم حقوق يطالبون بها, وليس من حقهم أن يحتجوا, أو ينتقدوا.
من هم حتى يفعلوا ذلك؟! بينما نقرأ ونتعلم أن المؤمنين إخوة, وأننا أصبحنا بنعمته إخوانا.
إننا بحاجة ضرورية إلى جهة علنية مسؤولة عن معالجة حالات العنف الاجتماعي والعدوان بأنواعها، يلجأ إليها كل من وقع عليه ظلم أو ضيم من أي كان؛ ليجد النجدة السريعة دون إبطاء, والوقوف إلى جانبه دون تردد, ولطالما انتظر من تعرض لسرقة أو اعتداء طويلاً دون أن يجد من ينصفه.
وأن نعمم الثقافة الأخلاقية التي تربي الفرد على احترام الآخرين, ورعاية حقوقهم, وحفظ المصالح العامة, والتزام الذوق السليم, واختيار الأحسن من القول والفعل, تحقيقاً لقوله سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الإسراء:53)، وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر:18)، وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} (الزمر:55).
وما أحوجنا إلى إحياء هدي الأنبياء عليهم السلام في هذا الجانب وغيره, وتعليم الناس أنه من السنة, وأن العبد ينال به الثواب الجزيل, والدرجات الرفيعة.
وفي الحديث عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ).
والله المستعان.
|