لو بدأتَ حديثك بهذه العبارة إلى إنسان في محيطنا الاجتماعي والتربوي وزعمت أنك (تعلمت كل ما تحتاج معرفته في الروضة) أي في المرحلة ما قبل بداية الدراسة ؛ لما تردد في اتهامك إما بسطحية التفكير أو المبالغة في الفلسفة الرخيصة ! .. لكن المؤلف (روبرت فولغام), قبل نحو عشرين عاماً، كان قد جعل العبارة السابقة عنواناً لكتابه، كما أن دارسات علمية موثقه تؤكد أن 80 في المائة من سلوكياتنا في مرحلة النضج إنما تأسست خلال سنوات عمرنا الأولى، وقبل بلوغ السادسة من العمر !! .
وهذا ما دفع المؤمنين بهذه الحقيقة إلى الأسى وهم يشهدون المجتمع لا يلتفت إلى استثمار أهم مرحلة في حياة أبنائه إن كان ذلك في غرس القيم الإسلامية في نفوسهم ونبذ المضادة لها، أو بدفع ميولهم نحو توجهات علمية أو فنية أو تربوية !! .
إن من أفضل ما يمكن البدء به كمساعد على تحقيق واجب استثمار فترة الطفولة المبكرة هو قيادة الناشئ إلى التفكير في (العلوم والتقنية) مثلا من منطلق جماعي مع والديه وإخوانه وأبناء عائلته .. فالأبوان اللذان يشركان طفلهما في أنشطة علميه غير تقليدية لا يمنحان هذا الطفل ( فرصة الحصول على المعلومات والحقائق العلمية فحسب ، بل يمنحانه أيضا فرص المشاركة في التفكير العلمي وكذلك فرصة تطوير اهتماماته في تعلم المزيد عن العلوم وتطوير مداركه ) كما يرى كيفين كراولي، رئيس مركز بحوث بيئات التعليم غير المدرسية في جامعة بتسبيرج ورئيس قسم البحوث في مركز بتسبيرج العلمي بالولايات المتحدة.
ويضيف كراولي ( بنفس الطريقة يتعرف الأطفال على الكثير من العلوم قبل سنوات من تلقيها عن طريق التدريس أو المدرسة، فسواء كان أولئك الأطفال يزورون المتاحف أو يشاهدون التلفاز أو يتصفحون الإنترنت ، فإن الأبوين متواجدان دوما معهم ليكونا بمثابة الموجه والمفسر لكثير من الأسئلة والاستفسارات .
( ويكمل كراولي ) وفيما يتعلق بالنجاح المستقبلي في المراحل المدرسية أو الخيارات المستقبلية المهنية في مجال العلوم ، فإن أهم نتيجة يتم التوصل إليها من خلال التفكير العلمي اليومي الذي يتم بين الأبوين والطفل قد لا تكون في المحتوى الذي حصل عليه الطفل في هذا اليوم أو ذاك، بل في الاهتمام والعادات التي تشكل جميعها الشخصية المتميزة لذلك الطفل في طريقة تفكيره العلمية .
(وإذا ما عدنا إلى فولغام وكتابه) كل ما أحتاج معرفته تعلمته في الروضة (نجد الأول يضرب لنا أمثلة بعدد من القيم التي تلقاها في الروضة وباتت تمثل بشكل لا شعوري جزءاً من قناعاته وسلوكياته الأساسية في الحياة، و من بينها قول معلمة (الروضة) ضمن توجيهاتها المصاحبة للعمل مباشرة: (شارك صديقك في اللعب) (الحليب الدافي طيب لك) (هنالك وقت لكل شيء) (تأمل الشارع قبل أن تعبره) (اعتذر عندما تخطئ) .
ولو نظرنا إلى هذه الرسائل لوجدناها في أغلبها تأتي عفوية عند مناسبتها وليس على الطريقة الوعظية أو التلقينية المعتادة لدينا .. فنجد الرسالة الأولى (شارك صديقك في اللعب) تأتي عندما ينزع أحد الصغار للأنانية ويرغب في ممارسة هوايته باستقلال، وهو الحال نفسه بالنسبة لكل الرسائل الأخرى.
و يبقى السؤال كم أهدرنا من رسائل إيجابية، وكم أفسدنا فطرة أبنائنا برسائل ورسائل سلبية رصدتها أحاسيسهم وكنا اعتبرناها ذهبت أدراج الرياح ؟!
* المدير التنفيذي لواحة الأمير سلمان للعلوم
ed@psso.org.sa |