Saturday 11th December,200411762العددالسبت 29 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الإصدار الدولى"

طمس متعمد لأسباب النضال الفلسطيني المشروعة طمس متعمد لأسباب النضال الفلسطيني المشروعة
دوافع انحياز الإعلام البريطاني لإسرائيل في صراع الشرق الأوسط!!

الكتاب: Bad News from Israel
المؤلفان: Greg Philo and Mike Berry
الناشر: 2004 - Pluto Press, London
***
لم يعد الحديث عن انحياز وسائل الإعلام لإسرائيل أمرا جديدا بل تناوله العديد والعديد من الكتاب والمحللين - العرب على الأغلب - منذ اغتصاب اليهود لأرض فلسطين قبل ستة وخمسين عاما، ولكن الأهمية الحقيقية لكتاب (أنباء سيئة من إسرائيل) الذي ألفه خبيرا علم الاجتماع (جريج فيلو) - رئيس مجموعة وسائل الإعلام بجامعة جلاسجو الاسكتلندية - وزميله مايك بيري تكمن في أنه يقدم رؤية غربية أكاديمية تكشف بالأخص عن ذلك الدور المضلل الذي تلعبه محطات التليفزيون الرئيسية في بريطانيا فيما يتعلق بتغطيتها للنزاع في الشرق الأوسط سواء على صعيد تقديم هذا النزاع بصورة محرفة مشوهة، أو فيما يتصل بإعطاء المشاهدين معلومات مضللة بشأنه.ويشير الكتاب إلى أن غالبية النشرات الإخبارية التي تقدمها هذه المحطات أبعد ما تكون عن التطرق إلى جذور الصراع، وأن هذه النشرات لا تعدو أداة خارجية للدعايات التي تطلقها حكومات إسرائيل، خاصة وأن تل أبيب قادرة على حشد دعم المليارديرات من مالكي وسائل الإعلام، وكذلك جماعات الضغط الصهيونية من أجل مساندة مواقفها، إضافة إلى قدرتها على تنظيم الحملات الرامية إلى نشر الرعب في قلوب الإعلاميين الذين يحاولون اتخاذ مواقف أكثر موضوعية بشأن الأزمة في الشرق الأوسط.ويؤدي كل ذلك إلى نتيجة مؤداها أن يظهر بين المشاهدين مستوى منذر بالخطر من الجهل والتشوش حيال طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى جانب شعور بعدم الاهتمام بالأمر برمته، وأنه لا توجد هناك لدى أحد قدرة على القيام بأي شيء في هذا الصدد، وأنه من المستحيل أن يتغير الوضع الذي صار عليه النزاع في الوقت الراهن.وفوق كل ذلك، تلعب التغطية الإخبارية الهزيلة والمنحازة دورا محوريا في الحيلولة دون بدء نقاشات عامة غير رسمية حول السبل التي قد تقود لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
أدلة وبراهين
وعلى الرغم من أن الانتقادات الموجهة لوسائل الإعلام في هذا الشأن ليست وليدة اليوم كما قلنا من قبل، إلا أن كتاب (أنباء سيئة من إسرائيل) يقدم لنا قدرا وافرا من الأدلة التي تدعم هذه الانتقادات، من خلال قيام واضعي الكتاب - فيلو وبيري- برصد وتحليل التغطية التي قدمها كل من تليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) ومحطة تليفزيون (آي.تي.إن) - وهما الأكبر على الإطلاق في بريطانيا - لتطورات النزاع في الشرق الأوسط خلال أربع فترات مختلفة منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر من عام 2000 وحتى ربيع عام 2002.
وفي هذا الإطار، حلل الرجلان مضامين نحو مائتي برنامج إخباري وقارناها بمضامين البرامج الإخبارية التي تبثها شبكات تليفزيونية أخرى في بريطانيا مثل القناة الرابعة على سبيل المثال، كما قارنا تلك المضامين بما نشرته الصحف البريطانية في ذات الفترات الزمنية حول النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وقابل الرجلان خلال رحلة إعدادهما لهذا الكتاب نحو ثمانمائة شخص من بينهم العديد من المذيعين ومعدي البرامج التليفزيونية المعروفين، حيث شارك هؤلاء في حلقات نقاشية جنبا إلى جنب مع مشاهدين عاديين من أجل التعرف على تصورات أولئك المشاهدين عن الصراع في الشرق الأوسط وعن التغطية التليفزيونية لتطوراته.
تغييب التاريخ
وقد اكتشف فيلو وبيري من خلال تحليل هذه المواد الإعلامية الإخبارية أنها لا تتضمن عادة سوى القليل من المعلومات والتحليلات حول جذور الصراع ومنبعه الأصلي، أو عن قرار الأمم المتحدة الذي قضى بإقامة إسرائيل على جزء من الأراضي الفلسطينية والحرب التي تلت ذلك بين الدولة العبرية وجيرانها العرب.
كما أن هذه المواد لا توضح النتائج التي ترتبت على إقامة إسرائيل واندلاع الحرب بينها وبين البلدان العربية من نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين عن ديارهم سواء بسبب فظاعات الحرب أو جراء عمليات الترحيل القسري التي خطط لها وقام بها الجيش الإسرائيلي النظامي جنبا إلى جنب مع العصابات الإرهابية الصهيونية، تلك العمليات التي أقرها رئيس الوزراء الإسرائيلي - حينذاك - ديفيد بن جوريون.
ولا تذكر هذه التغطيات الإخبارية سوى في القليل النادر عدد الفلسطينيين الذين صاروا لاجئين بعد حرب يونيو عام 1967، هؤلاء الذين بات يتعين عليهم الحياة في مخيمات للاجئين بحالة مزرية منذ ذلك الحين.
وفي حين تركز التغطية الإخبارية التي تقدمها الشبكات التليفزيونية عادة على التفاصيل اليومية للانتفاضة الفلسطينية المسلحة، فإن القليل من مراسلي هذه الشبكات يتحدثون عن كيفية استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية قبل 37 عاما، وإقدامها على احتلالها متحدية بذلك قرارات لا حصر لها أصدرها مجلس الأمن الدولي في هذا الصدد.
بالإضافة إلى ذلك، لا تتضمن هذه التغطية أي توضيح لمعنى الاحتلال في حد ذاته، إذ يعيش الفلسطينيون تحت حكم عسكري بكل معنى الكلمة - رغم أنه لا يطلق عليه هذا الاسم - حيث لا يتمتعون بأي حقوق مدنية، ويعانون من حرمان اقتصادي واجتماعي شنيع.
معرفة ضحلة
حديث الأرقام صارم في هذا الصدد، إذ يوضح أن ال(بي.بي.سي) و(آي.تي. إن) خصصتا 3500 سطر من سطور التعليقات الإخبارية التي بثتاها خلال الفترة ما بين 28 سبتمبر و15 أكتوبر من عام 2000 للحديث عن تطورات الانتفاضة، فيما لم تتناول المحطتان تاريخ الصراع سوى في 17 سطرا فحسب.
وتعكس ضحالة المعرفة العامة في هذا الصدد غياب مثل هذه المعلومات عن شاشات التليفزيون.
ومن هذا المنطلق، ففي ظل غياب أي معلومات محددة حول تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يعلم غالبية المشاهدين أن الإسرائيليين استولوا على أراضي الفلسطينيين لإقامة المستوطنات، وأن تل أبيب تقوم بإغلاق مئات الطرق (في الأراضي الفلسطينية)، وتحرم سكان هذه الأراضي من موارد المياه، وتقتلع أشجار الزيتون، إلى جانب أنها تغتال الزعماء السياسيين للفصائل الفلسطينية، وتعتقل الناس لسنوات دون محاكمة، بل وتمارس التعذيب بحقهم بشكل دوري، فضلا عن أنها تنتهج سياسات عقاب جماعي مثل هدم البيوت وفرض نظام حظر التجول.
وحتى إذا ما نجح المراسلون في أن يوردوا إشارات عابرة لهذه الانتهاكات في تقاريرهم فإنهم يخفقون في توضيح أن كل هذه الممارسات غير مشروعة بمقتضى اتفاقية جنيف الرابعة.
من يحتل من؟!
ولذا فإنه لا عجب من أن المشاهدين لا يتفهمون كثيرا الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة، خاصة وأن 10% فقط من الطلاب البريطانيين - الذين أجرى معهم جريج فيلو ومايك بيري لقاءات أثناء فترة إعداد الكتاب - يعلمون أن إسرائيل هي التي تحتل أراضي الفلسطينيين، بل إن البعض منهم يظن أن الفلسطينيين هم من يحتلون أراضي الدولة العبرية وليس العكس!.
وفيما رأى عدد ممن أجرى مؤلفا الكتاب لقاءات معهم أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعد شكلا من أشكال النزاعات الحدودية التي تنشب بين دولتين تتصارعان حول السيادة على مساحات من الأراضي! كشفت هذه اللقاءات أن 80 % من هؤلاء لا يعلمون الجهة التي أتى منها اللاجئون الفلسطينيون، أو كيف أصبحوا لاجئين من الأصل!.
لغة منحازة
كما كشفت الدراسة التي أجراها فيلو وبيري ونشرا نتائجها في كتابهما أن المراسلين عادة ما يستخدمون مفردات تميل أكثر نحو قوة الاحتلال المتمثلة في إسرائيل على حساب الخاضعين لنير هذا الاحتلال من الفلسطينيين، حيث يستخدم هؤلاء المراسلون كلمات مثل (بشاعة)، (قتل جماعي)، (إعدام خارج نطاق القانون) و(مذبحة) لوصف الهجمات التي تستهدف إسرائيليين، ولا يطبقون هذا على الهجمات التي يتعرض لها فلسطينيون.
وفي الوقت الذي يطلق فيه أولئك المراسلون وصف (إرهابيين) على الناشطين الفلسطينيين، لم يصف هؤلاء جماعة يهودية حاولت شن هجوم بالقنابل على مدرسة فلسطينية سوى بأنها جماعة (متطرفة).
أمن الفلسطينيين الغائب
من ناحية أخرى، أوضحت دراسة فيلو وبيري أن هناك إشارات متكررة من قبل المراسلين التليفزيونيين إلى أمن إسرائيل وحقها في الوجود، وذلك في وقت لا يحظى فيه أمن الفلسطينيين وحقهم في الوجود بالاهتمام نفسه.
وأظهرت الدراسة أيضا أن هناك تجاهلا فعليا للظروف المتردية والمُذلة التي يعاني منها الفلسطينيون منذ عقود تحت الاحتلال العسكري، حيث لا توجد أية محاولة لرصد صورة هذه الأوضاع المتدهورة، أو تناول المعاملة الوحشية التي يلقاها الفلسطينيون على يد جنود الاحتلال، ناهيك عن المساكن متواضعة الحال التي يقطنون فيها والتي تعاني من نقص المياه بالمقارنة بمساكن المستوطنين التي توجد بها حمامات سباحة وحدائق غناء.
وتؤكد الدراسة أن انحياز محطات التليفزيون - التي شملها البحث - لإسرائيل أمر جلي وشديد الوضوح، فمن خلال تحليل عينة البحث من المواد الإخبارية التي بثتها هذه المحطات عام 2001 عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ظهر أن غالبية هذه المواد كانت تشير إلى أن الإسرائيليين ليسوا سوى الطرف الذي (ينتقم) من (الإرهاب) الفلسطيني، وهو ما يدفع المشاهد بالتبعية إلى إلقاء اللوم على الفلسطينيين.
ولا توجد في مضامين هذه المواد أية إشارة إلى أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي هو ما أدى إلى ظهور المقاومة الفلسطينية، أو أن القوات الإسرائيلية هي التي تؤدي إلى اندلاع (العنف) الفلسطيني.
جهل فاضح
وعلى الرغم من أن عدد الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا خلال الانتفاضة يبلغ ثلاثة أضعاف القتلى الإسرائيليين في الفترة نفسها، إلا أن وسائل الإعلام تولي اهتماما أكبر بالقتلى من الجانب الإسرائيلي مع أن مراسلي هذه الوسائل لديهم من الأدلة ما يؤكد هذا الفارق الكبير في عدد القتلى بين الجانبين.
ولا يعني ذلك أن هؤلاء المراسلين منحازون لإسرائيل، أو غير متعاطفين مع الفلسطينيين، إذ إنهم يوضحون في تغطياتهم ما يترتب على العمليات العسكرية الإسرائيلية من عواقب، ولكن المشكلة أنه في الأغلب الأعم يترافق ذلك مع ذكر التفسير والتبرير الإسرائيلي لهذه العواقب.
ونتيجة لتقارير إخبارية مثل تلك تنشأ فجوة في المعلومات لدى المشاهدين وهو ما يكشف عنه كتاب (أنباء سيئة من إسرائيل) الذي يشير مؤلفاه إلى أن 35% فقط من الطلبة البريطانيين - الذين جرت معهم لقاءات في إطار الإعداد لوضع هذا الكتاب - يعلمون بأن الفلسطينيين تكبدوا خسائر بشرية أكثر من الإسرائيليين خلال الانتفاضة! .
فشل التليفزيون
ويكشف الكتاب عن أن الأشخاص الذين يتمتعون بمعرفة جيدة بطبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعتمدون على مصادر أخرى للمعلومات بخلاف التليفزيون مثل الصحف والكتب على سبيل المثال، وهو ما يعني أنه على الرغم من الإمكانيات التي ينطوي عليها التليفزيون إلا أنه لا يعد أفضل مصدر للحصول على معلومات.
فمثلا، تقدم التقارير الإخبارية التليفزيونية عادة المستوطنات اليهودية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتبارها تجمعات سكانية عرضة للخطر، دون أن تتحدث عن الدور الاستراتيجي الذي تلعبه هذه المستوطنات فيما يتعلق بالتوسع الإسرائيلي وترسيخ الاحتلال، خاصة وأنها أقيمت كحصون على قمم التلال لتمنح قاطنيها - المدججين بالأسلحة على الأغلب - موقعا مسيطرا.
وقد أبلغ بعض المبحوثين في هذه الدراسة (ليندسي هيلسم) المذيع بالقناة الرابعة في التليفزيون البريطاني بأنهم يفضلون أن تتضمن التقارير الإخبارية التليفزيونية استعراضا تاريخيا سريعا ومكثفا في الوقت نفسه للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأشار بعضهم إلى أنه يرى أن كل ما يجري الآن على صعيد هذا الصراع ناجم عما حدث عام 1948، وهو ما يشي - كما يقول (هيلسم) - بأن هناك نمطا جديدا من المتلقين بدأ في الظهور.
وفي إطار قيام مراسلي وسائل الإعلام برصد التكتيكات وردود أفعال الأطراف المنخرطة في صراع الشرق الأوسط، ذكروا ذات مرة ما قاله (إيهود باراك) - عندما كان - رئيسا لوزراء إسرائيل من أنه سيستخدم كافة السبل لاستعادة النظام (في الأراضي الفلسطينية)، واستنتجوا - في ذلك الوقت - أن الفلسطينيين سيردون بشكل عنيف على هذا الإعلان من قبل (باراك)، دون أن ينظروا بشكل انتقادي لطبيعة (النظام)الذي يسعى الإسرائيليون لاستعادته، وهل يكون معناه فرض سيطرتهم العسكرية، والقيام بحملات اعتقال واسعة النطاق، أم سيعني الزج بالفلسطينيين في السجون دون محاكمة، وممارسة التعذيب، وعمليات القتل خارج نطاق القانون بحقهم.
كما أن أولئك المراسلين لم يحفلوا أيضا بمناقشة ما الذي بمقدور الفلسطينيين عمله أو يجب عليهم القيام به لإنهاء ذلك كله.
وفي السياق نفسه، بوسعنا أن نذكر هنا أنه بينما كان الإسرائيليون يلقون باللوم عادة على الرئيس الفلسطيني الراحل (ياسر عرفات) فيما يتعلق بانهيار محادثات السلام في قمة كامب ديفيد الثانية في يوليو من عام 2000، لم يحاول المراسلون والصحفيون - إلا قليلا - التعرف على رؤية الفلسطينيين لماهية كلمات مثل ( السلام) و(التطبيع).
غول الإعلانات
ويقدم واضعا كتاب (أنباء سيئة من إسرائيل) أمثلة مثيرة تكشف عن الأسباب التي تحدو بالمراسلين والصحفيين لتقديم الأخبار الخاصة بالنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين بهذه الطريقة المشوهة.
ويوضحان أن احتياج محطات التليفزيون الإخبارية - التي تعتمد بشكل كبير على الإعلانات - لتقارير إخبارية تبث على مدار الساعة يجعل مراسلي هذه المحطات يقضون وقتا أطول أمام الكاميرا لإعداد تلك التقارير، مما لا يتيح لهم الوقت الكافي لجمع الأخبار وتحليلها .
ويقود هذا الوضع لأن يعتمد هؤلاء المراسلون بشكل أكبر على المصادر السهلة والمتاحة للمعلومات، وهي ما يعني في نهاية المطاف الاعتماد على المسئولين الرسميين.
ولتوضيح مدى احتياج المحطات الإخبارية التليفزيونية للإعلانات التجارية، يمكن أن نذكر هنا أن هيئة الإذاعة البريطانية - التي تعد أكبر المحطات الإخبارية في العالم من حيث حجم مراسليها في مختلف أرجاء الأرض - تحصل على ربع دخلها من المصادر الإعلانية.
تحليل لا تجميع
ويقول الكاتب البريطاني (روبرت فيسك) - وهو صحفي مخضرم في شئون الشرق الأوسط - إن الرواية التي يقدمها المراسلون للأحداث ترتكز على آخر تصريح أدلى به المسئولون حول الحدث، مشيرا إلى أنه ( كما يبدو لا يوجد فهم حقيقي لمهمة المراسل باعتبارها تتمثل في تحليل ما يجري بالفعل على الأرض، وليس مجرد تجميع الأحداث وضخها في الماكينة الإخبارية الإعلامية).
وينقل كتاب (أنباء من إسرائيل) عن بعض المراسلين الكبار قولهم إنهم تلقوا تعليمات بعدم تقديم شروحات أو تفسيرات للأخبار التي يقدمونها (عن الصراع في الشرق الأوسط)، ومن بين هؤلاء أحد مراسلي ال(بي.بي.سي) الذي يقول إنه تلقى تعليمات من قبل رئيسه في قسم التحرير بألا يقدم تفسيرات للحدث الذي يقوم بتغطيته أو تعليلات له.من ناحية أخرى، يكشف (بول آدامز) المراسل العسكري في ال(بي.بي.سي) أيضا عن أن (الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يقدم عادة بوصفه صراعا دمويا، ولذا فإذا لم يكن الحدث المتعلق به غارقا في الدماء لا تتم تغطيته من الأصل إخباريا).
أما (جورج ألاجيه) مقدم نشرة السادسة مساء في هذه المحطة الإخبارية الشهيرة فيوضح أن هيئة الإذاعة البريطانية دائما ما تشدد على أن تركيز المشاهد وانتباهه للخبر لا يستمر أكثر من عشرين ثانية، وهو ما يعني أن المشاهد قد يغير القناة من الدقيقة الأولى إذا لم يجتذب الخبر انتباهه كاملا منذ البداية.
أسباب الانحياز
وتكشف دراسة جريج فيلو ومايك بيري أن الرؤية الإسرائيلية تهيمن على النشرات الإخبارية التليفزيونية نظرا للأساليب المتطورة التي تستخدمها الدولة العبرية سواء على صعيد حملات العلاقات العامة أو على مستوى حشد جماعات الضغط .ويعرض الكتاب رؤية يطرحها أحد أكثر مراسلي ال(بي.بي.سي) المتخصصين في شئون الشرق الأوسط يسرد فيها الأسباب العملية - التي تعد في جوهرها سياسية أيضا - للتغطية الإعلامية المنحازة لإسرائيل فيما يتعلق بالصراع بينها وبين الفلسطينيين.
ومن بين هذه الأسباب أن بمقدور السلطات الإسرائيلية توفير وثائق وبيانات بلغات مختلفة، والاستعانة بناطقين رسميين يتحدثون الإنجليزية بطلاقة يستطيعون مخاطبة وسائل الإعلام الغربية بكفاءة، وطرح وجهة نظر تل أبيب في الأحداث الجارية.
إلى جانب ذلك، تستطيع الآلة الدعائية الإسرائيلية إرسال عدد كبير من رسائل البريد الإلكتروني إلى المراسلين بما يتراوح ما بين 75 إلى 100 رسالة يوميا.
عجز فلسطيني
على الجانب الآخر، يفتقر الفلسطينيون إلى كل هذه المقومات فالناطقون الرسميون باسمهم يتحدثون بإنجليزية مثيرة للشفقة، لدرجة أنهم يعتبرون (أجلافا) غير مثقفين، كما أن حديثهم غير مترابط ولا يتجه صوب الهدف، فضلا عن أنه من المتعذر عليهم التغلب على مئات الحواجز الموضوعة في الطرقات للوصول إلى الاستوديوهات التي تُجري فيها وسائل الإعلام الغربية لقاءاتها في القدس مثلا فلا يبقى أمامهم في أحسن الأحوال سوى إعطاء ردود مقتضبة عبر خطوط هاتفية رديئة.
وفي الوقت الذي لا يتجاوز عدد الرسائل التي يستطيع الجانب الفلسطيني إرسالها إلى وسائل الإعلام خمس رسائل يوميا، نجد أن الحواجز التي تضعها إسرائيل على الطرقات المؤدية للمدن والبلدات الفلسطينية تجعل من الصعب على المراسلين والصحفيين الأجانب الوصول إلى هذه المناطق من أجل متابعة الأحداث هناك، وإعداد تقارير إخبارية عنها متضمنة وجهة النظر الفلسطينية.
وفوق هذا وذاك، لا تخصص أية قناة إخبارية غربية أموالا لضمان وجود فريق إخباري تابع لها في الأراضي المحتلة.
منطقة القتل
وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك نوعا من التفهم لحقيقة ما يجري، فجمعية الصحافة الأجنبية في القدس، ومنظمة (صحفيين بلا حدود) اتهمتا إسرائيل بإطلاق النار على الصحفيين بشكل متعمد، مشيرتين في هذا الصدد إلى أن ثمانية من بين هؤلاء الصحفيين أصيبوا خلال شهر يونيو من عام 2001
وقد قدم برنامج (منطقة القتل) الذي بثته القناة الرابعة البريطانية تفاصيل عما اعتبرته القناة قتلا متعمدا لأحد المراسلين على يد القوات الإسرائيلية، عندما كان هذا الرجل يصور مشاهد تدمير منازل فلسطينية.
من جانبها، تحشد إسرائيل جماعات ضغط لها قوتها ونفوذها للدفاع عن وجهة نظرها في الولايات المتحدة وبريطانيا، حتى تكون على يقين من أن وسائل الإعلام هناك ستقف في صفها.
وقد نقلت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية عن أحد مسئولي السفارة الإسرائيلية في لندن قوله إن ( لندن تعد مركزا لوسائل الإعلام، والسفارة تعمل ليلا ونهارا من أجل التأثير على هذه الوسائل.
ولأسباب عدة لا أعتقد أننا نقوم بعمل مبتسر، لأنه ربما يكون بوسعي أن أقول إن لدينا صحفا تكتب بشكل مستمر من منطلق موقف داعم لإسرائيل ومتفهم لوضعها وللتحديات التي تواجهها.
كما أن لدينا تأثيرا على ال(بي.بي.سي) أيضا)!!
حملات الابتزاز
وإذا لم تقم وسائل الإعلام ب)دعم إسرائيل وتفهم وضعها)، فإن مراسليها وصحفييها يواجهون وابلا من رسائل الهجوم والانتقاد.
وفي هذا الإطار، أشارت صحيفة (الأوبزرفر) البريطانية إلى أن ( المؤسسات الإخبارية التي تتناقض رؤاها مع تلك التي تتبناها تل أبيب تواجه اتهامات بأنها فلسطينية الهوى في أفضل الأحوال أو معادية للسامية على أسوأ تقدير).
وقد أشار (ليندسي هيلسم) إلى أنه تلقى العديد من رسائل البريد الإلكتروني التي تتهمه بالعداء للسامية فقط لأنه كتب شيئا ما عن إسرائيل لم يرق لهؤلاء الذين وجهوا له هذه الرسائل.
وقد لفتت (الأوبزرفر) النظر أيضا إلى تزايد حملات كتابة مثل هذه الرسائل، وكذلك التنامي الكبير في عدد المواقع الإلكترونية التي تستهدف بعض المراسلين والصحفيين (بسبب مواقفهم من الصراع في الشرق الأوسط)، وتوفر عرائض جاهزة للمشتركين فيها لإرسالها إلى أولئك الإعلاميين.
نغمة الإرهاب
وفي الوقت الذي تعمل فيه إسرائيل على توظيف نغمة ( الحرب ضد الإرهاب) لتكون من بين أسلحتها في حملاتها الدعائية، نجحت الدولة العبرية في استغلال حالة الاشمئزاز التي انتابت البعض بسبب التفجيرات (الفدائية) التي يقوم بها النشطاء الفلسطينيون.
وينقل الكتاب عن (ناتشمان شاي) أحد المتحدثين الرسميين الإسرائيليين الرئيسيين في السنوات الأولى للانتفاضة قوله(إننا اخترنا استخدام محور(الحرب ضد الإرهاب) بدلا من محور (العداء للسامية) لأننا جزء من العالم الغربي.لقد استطعنا الاستفادة من هذا الأمر للغاية، وقد كان ذلك المحور مفيدا أكثر مع الحكومات، التي صارت تمنحنا المزيد من الدعم.
فبينما يرى البعض أن الحديث عن مسألة (العداء للسامية) يعبر عن إفلاس في الحجج المتوافرة لدينا، يرتكز محور (الحرب ضد الإرهاب) على المصالح المشتركة) بين إسرائيل ودول الغرب.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية بالفعل، حيث يعتبر (شاي) أن تغطية وسائل الإعلام الدولية لتطورات الصراع مع الفلسطينيين - بما فيها وسائل الإعلام البريطانية - آخذة في التحسن، مشيرا إلى التأثير الذي خلّفته العمليات (الفدائية) على النظرة التي يرى بها الناس الصراع إذ يقول (إن التغطية أصبحت - تدريجيا - أكثر توازنا، عما كانت عليه في البداية، فوسائل الإعلام أصبحت ترى الآن القضايا المعقدة بشكل أكبر، مقارنة بما كان يحدث في بداية الأمر، وذلك بسبب العمليات الفدائية ضد الشعب الإسرائيلي).
حكاية مردوخ
ويتناول كتاب (أنباء سيئة من إسرائيل) حالة (سام كيلي) مراسل صحيفة (التايمز) البريطانية - التي تعد جزءا من الإمبراطورية الإعلامية للملياردير (روبرت مردوخ)، الذي يمتلك أيضا شبكة (فوكس) الإخبارية في الولايات المتحدة - حيث يشير الكتاب إلى أن (كيلي) استقال من عمله في سبتمبر من عام 2001، ملقيا باللوم على تحيز المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها لإسرائيل وتأثير ذلك على تقاريره الإخبارية.
وقد تحدث (كيلي) عن الصداقة الحميمة التي تربط (مردوخ) ب(شارون)، واستثمارات هذا الملياردير الضخمة في إسرائيل، وكتب مقالا في إحدى الصحف المسائية اللندنية قال فيه إن ( صحفيي الشئون الدولية في (التايمز) اللندنية، وكذلك باقي الصحفيين المسئولين عن تغطية الأحداث في منطقة الشرق الأوسط يشعرون بالهلع والرعب الهستيري في كل مرة تقوم فيها جماعة ضغط موالية لإسرائيل بتوجيه انتقادات للصحيفة أو شكاوى من موضوع نشر على صفحاتها، وفي العادة تأخذ الصحيفة صف هؤلاء المنتقدين ضد المراسل الذي يعمل بها..
لقد قالوا لي إنه يفضل ألا أشير إلى عمليات (الاغتيال) التي تحدث بحق خصوم الدولة العبرية أو عمليات القتل والإعدامات خارج نطاق القانون).
ويضيف (سام كيلي) قائل إن المديرين التنفيذيين للصحيفة يشعرون بالذعر من أن يبدوا كما لو كانوا معارضين لتوجهات (مردوخ)، إلى حد أنه عندما التقى (كيلي) نفسه مع عناصر وحدة عسكرية إسرائيلية مسئولة عن مقتل طفل فلسطيني لا يتجاوز عمره اثني عشر عاما، طُلب منه أن يرسل الموضوع إلى الأرشيف دون أن يأتي على ذكر الطفل القتيل!.
تحيز بلاك
ولا يقتصر الأمر على (التايمز) فحسب، بل إن صحيفة (دايلي تليجراف) - التي تعد جزءا من مجموعة ( هولينجر) الأمريكية التي تمتلك أيضا صحيفة (جيروزاليم بوست) الإسرائيلية - تتعرض هي الأخرى لانتقادات من قبل صحفييها بشأن سياساتها التحريرية حيال النزاع في الشرق الأوسط.
ويؤكد هؤلاء الصحفيون أن الدعم الكبير الذي كان يبديه (كونراد بلاك) المالك السابق للصحيفة - ذلك الرجل الملاحق بالفضائح - لإسرائيل، كان له تأثير كبير على سياستها التحريرية حيال أزمة الشرق الأوسط.
وقد ألقت صحيفة (الجارديان) الضوء على ما قام به ثلاثة من الكتاب المرموقين في الصحف التي يملكها (بلاك) من توجيه رسالة إلى مجلة (سبكتاتور) يتهمون فيها هذا الرجل بالتعسف في استعمال صلاحياته كمالك لهذه الصحف مشيرين إلى أن ذلك (أدى إلى ألا يصبح هناك مراسل أو صحفي يجرؤ على الكتابة بشكل صريح عن وجهات نظر الفلسطينيين).
تجارب عصيبة
ويمكن القول إن التوجه العام لل(بي.بي.سي) و(آي.تي.إن) بشأن تغطية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يكمن في الخضوع للضغوط والانحناء أمام العاصفة.وقد أوضح (فيلو) أن هذا الصراع مثير للجدل بدرجة تجعل من الأسهل على وسائل الإعلام عدم التطرق إلى جذوره التاريخية، وهذا يؤدي إلى طمس الأسباب العقلانية للانتفاضة الفلسطينية والنضال الفلسطيني ضد إسرائيل.
وأضاف أن ذلك يجعل المراسلين والصحفيين يعتمدون أكثر على التفسيرات التي تقدمها إسرائيل بقدر أكبر مما يرويه الفلسطينيون عن منازلهم التي فقدوها، وكفاحهم من أجل التحرر الوطني.وأشار الرجل في هذا الصدد إلى (جون بيلجر) الذي أدى برنامجه عن القضية الفلسطينية والذي بث على شاشة (آي.تي.في) إلى أن تنهال أربعة آلاف رسالة بريد إليكتروني غاضبة من قبل الموالين للصهيونية وآخرين على هذه الشبكة التليفزيونية، واستغرق الأمر ستة أسابيع لكتابة رد يبرر فيه الرجل ما قدمه في البرنامج.
صورة مروعة
ويقدم كتاب (أنباء سيئة من إسرائيل) صورة مروعة تكشف عن المدى الذي باتت فيه الحقيقة ضحية لوسائل إعلام تسعى لتكييف نفسها مع الظروف، بغض النظر عن وجود ثلة من المراسلين الذين لديهم استعداد كامل للتضحية بمركزهم المهني من أجل مواجهة جماعات الضغط القوية وتلك الجهات التي تدعم المؤسسات الإعلامية التي يعملون فيها.وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الكتاب أخفق في توضيح المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الأوسع نطاقا التي تفضي إلى إحجام شبكات التلفزيون عن تقديم تغطيتها للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال الرؤى السائدة في العالم العربي والأراضي المحتلة - كما فعلت من قبل - جنبا إلى جنب مع الرؤى الموجودة في إسرائيل.
إذ إن وسائل الإعلام ليس لديها أي اهتمام بتقديم تفسير تاريخي لتلك المأساة التي حلت بالفلسطينيين، والتي خلقت دولة عسكرية بشعة تدعى إسرائيل، أدى إلى الزج بكل من الفلسطينيين والإسرائيليين في حرب وحشية همجية.
فمثل هذا التحليل سيؤدي إلى إنهاء الدعم الحكومي البريطاني للولايات المتحدة وإسرائيل التي تعتبر حامية للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved