جاءت أرقام الميزانية للعام المالي القادم متوافقة مع التوقعات من حيث زيادة الإيرادات المتوقعة، وما ينتج عن ذلك من زيادة متوقعة في الإنفاق الحكومي، وبخاصة في مجال الانفاق الاستثماري الحكومي بعد أن كان هذا الجانب يعاني من تأجيل مستمر لعدة سنوات لكن وبقراءة سريعة للميزانية وميزانيات الأعوام الماضية نجد ان هناك عدة نقاط تسترعي التوقف:
أولاً: أن الانفاق على التعليم العالي - وذلك من خلال ما خصص للجامعات - يكاد يكون مستقرا عند نفس المستوى منذ أربع سنوات هذا على الرغم من تزايد الحاجة إلى زيادة القدرة الاستيعابية للجامعات القديمة والارتقاء بمستوياتها، وضرورة تحسين أوضاع هيئات التدريس المهنية والمالية وضخ دماء جديدة.
ثانياً: هناك حاجة ملحة لإحداث تغييرات هيكلية في برامج الرعاية الاجتماعية بما يتناسب والتغيرات على أرض الواقع، وهذا ما لم تعكسه الميزانية الجديدة. ولعل مما يعزز ضرورة الاهتمام بهذا الجانب النظر إلى الانفاق عليه إلا انه إنفاق استثماري وليس باستهلاكي، إذ إن توفير مستوى العيش الملائم يجنب المجتمع كثيرا من الاشكالات الاجتماعية والأمنية والصحية التي يتطلب التعامل معها مبالغ طائلة، هذا بغض النظر عما تحدثه من اختلالات وتشوهات في تركيبة المجتمع ونموه.
ثالثاً: من استقراء الإيرادات الفعلية والتقديرية والمصروفات الفعلية والتقديرية للعشرين سنة ماضية يلاحظ أن هناك تفاوتا كبيرا بين الأرقام الفعلية والتقديرية لكل منهما، وصل أعلى مستوى له في عام 2003 حيث بلغت الايرادات الفعلية (295) مليار ريال، فيما كانت التقديرية (170) مليار ريال فقط، ومن الطبيعي أن يؤثر ذلك على صناعة القرارات ودرجة التيقن عند التخطيط لها، الأمر الذي ينعكس سلبا على أداء الحكومة، فلربما ألغيت أو أجلت مشروعات معينة بسبب أن الايرادات الفعلية جاءت أقل من التقديرية بشكل غير متوقع، ولربما توسع في الإنفاق الحكومي بشكل غير مخطط له مسبقا لأن العكس كان هو الحاصل.
ولعل حالة عدم الاستقرار هذه، وما يترتب عليها من نتائج سلبية عند اتخاذ القرارات وتنفيذها تدعم فكرة إيجاد آلية لتحقيق الاستقرار في إيرادات الحكومة وتحييد الآثار الناشئة عن التقلبات في أسعار النفط عليها.
رابعاً: يتوقع أن تؤدي الزيادة الكبيرة في القروض المقدمة من صندوق التنمية العقارية إلى زيادة كبيرة في الطلب على مواد البناء ومستلزمات، ولأجل الحد من ارتفاع الأسعار وافتعال الأزمات فإنه لابد من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع ذلك، لئلا يتآكل، وربما يتلاشى الأثر الحقيقي المستهدف من الزيادة في حجم القروض الممنوحة، وتتحول هذه الزيادة إلى دخول غير متوقعة تصب في حسابات تجار مواد البناء.
خامساً: من المتوقع أن ينخفض الدين العام إلى (614) مليار ريال، ويحتمل أن يواصل انخفاضه العام المقبل فيما لو استمر إنتاج النفط وأسعاره عند مستوياتها الحالية، أو أقل منها بقليل ليصل إلى (560) مليار ريال، وهو ما يضعه ضمن الحدود المقبولة عالميا موازنة بالناتج المحلي الإجمالي، ويساعد على إعطاء الحكومة قدراً من حرية الحركة في الانفاق على البرامج التنموية المؤجلة منذ سنوات.
سادساً: قدر حجم الانفاق على المشاريع الحكومية في العام المالي الجديد بـ(75.5) مليار ريال وهو ما يشكل (27%) من إجمالي الانفاق العام.
وهذا الانفاق بهذا الحجم هو الأول منذ أكثر من عقدين من الزمن، وهو بلا شك يسهم في بناء البنية التحتية التي يحتاجها الاقتصاد المحلي لبناء هياكله الانتاجية الحديثة، وللارتقاء بمستوى المعيشة في ظل تقادم البنية التحتية الحالية والتزايد الكبير في السكان.
سابعاً: بناء على الأرقام التقديرية للإنفاق الحكومي لعامي 2004 و2005، فإنها تقرأ على ان الحكومة تنتهج سياسة مالية توسعية والتي ستؤدي إلى إحداث إنعاش ونمو اقتصاديين، لكنها، مثلها مثل أية سياسة اقتصادية أخرى، تنطوي على آثار سلبية على بعض المتغيرات الاقتصادية، ولذا فإنه من المناسب اتخاذ إجراءات وقائية وحمائية ابتداء للحد من وقوع هذه الآثار والتخطيط المبكر لتدابير علاجية يمكن اللجوء إليها عند الحاجة.
مما يجب التوكيد عليه ضرورة الاستمرار فيما أخذت به الميزانية المعلنة من زيادة الاهتمام بالانفاق الاستثماري الحكومي في السنوات المقبلة لما له من آثار إيجابية على تكوين رأس المال الثابت وتوطين الاستثمارات وجذب رؤوس أموال أجنبية، ولما تقتضيه ضرورات التقدم العلمي والتقني والمعلوماتي المتسارع.
وفي الإطار نفسه فإنه من الضروري أن يأخذ البحث العلمي وتطبيقاته والانفاق عليه مكانته ضمن بنود الإنفاق المختلفة ذلك لأنه المحرك الحقيقي لعملية النمو ذاتي الاستمرار، ولعل ذلك يقودنا إلى التفكير في أهمية إعادة صياغة بنود الميزانية وهيكلتها وفقا للمعطيات والمتغيرات المعاصرة.
|