آثر الارتحال في سبيل تعليم العلم والدعوة إلى الله ونشر الدين؛ على لذة العيش في مكان ميلاده، وقدّم ذلك على متعة وصل أقاربه وأصدقائه وجيرانه، وَفدَ إلى منطقة حائل راغباً بتعلم العلم وتعليمه، فكان نعم الوافد؛ افتتح الدروس في بعض مساجد المدينة وفي جوامع القرى النائية، ونظم اللقاءات المتتالية، ينتقل بنفسه على سيارته لوحده، لم ينتظر انتداباً، ولم يتطلع لبدل، عندما تتأمل فيما يفعله يتجلى لك الإخلاص بحقيقته- نحسبه كذلك والله حسيبه- على سيارته الخاصة يقطع الطرق الوعرة، ويجوب الفيافي المقفرة ليشرح درساً، أو يلقي خطبة، أو يبلغ آية، وعلى حسابه الخاص يطبع المذكرات ويشتري الكتب ويوزعها، ديدنه الحث على طلب العلم، وهمه أن يكون طلابه دعاة إلى الله تعالى على بصيرة متبعين لسبيل النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
ومن الجوانب المهمة في دعوة هذا الشيخ المجاهد، والعالم الزاهد، والداعية العابد، هو ذلك المنهج النفيس المهم الذي ظهرت أهميته جلية في هذه الأيام -منهج السلف الصالح- فقد كان يربي طلابه عليه، ويدعو الناس إليه؛ فقد أصل في نفوس طلابه العمل بالقرآن، والتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفهمهما على فهم السلف الصالح الكرام، وأكد في نفوس طلابه تقدير العلماء الكبار، وحب الدعاة الأخيار، والسمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف.
وأما الجانب الأهم في دعوة هذا الشيخ، والذي تجدر الإشادة به وتبيينه، بعد أن حصحص الحق، وبان الباطل، هو تحصين أفكار طلابه عن الانحراف، وحفظها عن الزيغ والضلال والانجراف، فكم حذر وأنذر، وكم أعلن وأسر مستعملاً الحكمة في دعوته، والموعظة في بغيته مبيناً خطر بعض الدعوات الوافدة، وموضحاً شرور المناهج المحدثة والوسائل المستحدثة، التي تخالف المحجة الواضحة التي تركنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فلامه بعض الناس وحذروا منه، وخطأوا منهجه ونفروا عنه، وسفهوا طريقته، واتهموا مقاصده، وشككوا في منهجه، بل آذوه وضربوه، وأساءوا إليه واغتابوه، وهو كالطود الشامخ، لسان حاله يقول: لو كل كلب عوى ألقمته حجراً... لصار الحجر مثقالاً بدينار.
وهكذا هم العلماء الذين لا يدعون لأنفسهم، يرسون كما ترسي الجبال؛ سألته مرة: ما بال بعض الناس؛ يكاد أن يقع بحقه قول الله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} سورة النساء(143) يتقلب كما تتقلب الريشة في مهب الريح، تجده مع هؤلاء يقول بقولهم تارة، فما تلبث إلا وتجده مع أولئك يقول بقولهم تارات، وكان زمن هذا السؤال إبان حرب الخليج، حيث انقسم كثير من الناس أشتاتاً، وتوزعوا أحزاباً -إلا من رحم الله- ونشط المحمسون، وعلت كلمة المهيجين، وراق الوضع للمرجفين، استغلالاً لتلك الأحداث، فتزعم أناس قضايا صارت واهية، وادعى بعضهم دعوات أضحت من الصحة عارية، فتأثر كثير من الشباب، سألته حينها عن سبب تقلب بعض الناس وثبات بعضهم، فكان جوابه: أن أهل الثبات من الناس، وعلى رأسهم علماؤنا الأفاضل، عندهم أصول يمشون عليها، وقواعد شرعية يرجعون إليها، فنصوص الكتاب والسنة هي مقياسهم، ومنهج السلف الصالح هو القاعدة الأولى التي بنوا عليها أساسهم، ولذلك لم يجد الضلال إليهم طريقاً، واستدل كعادته بقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} سورة إبراهيم (24) وبقول النبي صلى الله عليه وسم (تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض).
أما أولئك، الذين في أودية الأحزاب يهيمون، وفي بحور الفرق يسبحون، وإلى دعاة الضلال يرجعون، فليس لديهم أصول ثابتة، ولا قواعد راسية، إنما تتلاعب بهم أهواؤهم، وتقودهم ملذاتهم، وتتحكم بهم عواطفهم، ويتصرفون حسب ما يمليه عليهم حماسهم البعيد عن ضوابط الشرع.
إنه نعم المعلم، ونعم الواعظ، ونعم الخطيب، ونعم المربي، وقد تبين فضله، وأثمرت جهوده، لاسيما في هذه الأيام حيث حصحص الحق، فاسألوا من انحرف فكره، هل جلس يوماً عند شيخنا الفاضل؟ اسألوا أهل التكفير والتفجير، ماذا كان موقف الشيخ منهم؟ اسألوا الذين لم يسمعوا لنصح الشيخ، واستمعوا لدعاة التهييج والإثارة، اسألوا من أعرض عن درس الشيخ وذهب يطلب العلم في مراكز الأضرحة والقبور خارج البلاد! اسألوا من نصب العداء للشيخ؛ لتحذيره ممن يقدح بالأنبياء، ويسب بعض الصحابة الأتقياء، اسألوا لعلكم تجدون جواباً؛ بل ستجدون.
وأخيرا لعل من عاش خارج منطقة حائل لا يعرف هذا الشيخ وقد تشوق لمعرفته؛ إنه الشيخ عبدالله بن صالح العبيلان، الذي لا نملك له اليوم إلا أن نقول: حفظك الله كم تسببت بحفظ عقولنا عن الانحراف، ووفاء له واعترافاً بفضله كتبت هذا المقال؛ لعله لشيخنا من عاجل بشرى المؤمن ولغيره من باب الذكرى التي قال الله عنها: {تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (55) سورة الذاريات.
( * ) حائل - ص ب 3998 |