* الجزيرة - خاص:
أرشدنا الإسلام إلى فضل وثواب المسلم الذي يقضي حاجة لأخيه المسلم أو يعينه على قضائها، وذلك لتحقيق مصالح المسلمين ونهضة الأمة وتوثيق عرى الترابط والتلاحم بين أبناء الأمة، إلا أن كثيراً من المسلمين جهلوا هذا الفضل أو جحدوا هذا الثواب فراحوا يتقاعسون عن قضاء مصالح الناس والتي أوكلت بهم من خلال وظائفهم وأعمالهم وراح بعضهم يمتن على من يقضي له حاجة بل وربما طالبه بأن يقضي له حاجة مقابل ما قضى له من حاجة، وقد يبلغ الجهل والجحود درجة أكبر فيطلب من صاحب الحاجة مقابلا ماليا أو عينيا حتى يقضي له حاجته.
فما هي فضل وثواب قضاء حاجة المسلم، وما هو ثواب خدمة المسلمين، وهل من يقضي حاجة لأخيه متفضل عليه، وما الذي يجب على صاحب الحاجة تجاه من يقضيها له؟ وغيرها من التساؤلات التي طرحناها على فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن القاسم القاضي بالمحكمة العامة بالمدينة المنورة وإمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.. فكان هذا الحوار.
*****
* بداية نود أن نتعرف على فضل وثواب قضاء حوائج المسلمين؟
- فاضل الله سبحانه وتعالى بين عباده في الجاه، والشرف، والعلم، والعبادة، وسخر بعضهم لبعض، ليتحقق الاستخلاف، وتعمر الأرض، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ }، وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وفي خلق الفقير ابتلاء للغني، والقوي مبتلى بالضعيف، والشريف ممتحن بالوضيع، ومن أجل تلك السنة الكونية، جاءت السنة الشرعية بالتعاون بين الناس، وقضاء حوائجهم، والسعي في تفريج كروبهم، وبذل الشفاعة الحسنة لهم، تحقيباً لدوام المودة، وبقاء الألفة، وبذل العبادة، وحسن المعاملة، بهذا جاء الدين.. قال ابن القيم: -رحمه الله- (وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل الخير وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه).
ونفع الناس، والسعي وراء كشف كروبهم، من صفات الأنبياء والرسل، فالكريم يوسف -عليه السلام- مع فِعلة إخوته له ما فعلوا، جهزهم بجهازهم، ولم يبخصهم شيئاً منه، وموسى -عليه السلام- لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد امرأتين مستضعفتين فرفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما، وخديجة -رضي الله عنها- تقول في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)، وأشرف الخلق إذا سئُل حاجة لم يرد السائل عن حاجته، يقول جابر -رضي الله عنه-: (ما سئُل رسول الله شيئاً قط فقال لا).
* هل تعرض لنا نماذج من سيرة السلف الصالح من الصحابة في قضائ الحوائج؟
- على هذا النهج القويم للرسول صلى الله لعيه وسلم سار الصحابة والصالحون، فقد كان أبو بكر الصديق يجلب للحي أغنامهم، فلما استخلف، قالت جارية منهم الآن لا يجلبها، فقال أبو بكر: بلى، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وكان عمر يتعاهد الأرامل، يسقي لهن الماء ليلاً. وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهن كل يوم فيشتري لهن حوائجهن، وما يصلحهن. إن خدمة الناس ومسايرة المستضعفين دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، و ربنا يرحم من عباده الرحماء، ولله أقوام يخصهم بالنعم لمنافع العباد، وجزاء التفريج تفريج كربات، وكشف غموم في الآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه مسلم، وفي لفظ له: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)، الساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة مؤيد بالتوفيق، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
* وهل من ثواب عاجل أو منفعة في الدنيا لمن يقضي حاجة الناس؟
- لا شك أن في خدمة الناس بركة في الوقت والعمل، وتيسير ما تعسر من الأمور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ييسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، نبلاء الإسلام، وأعلام الأمة شأنهم قضاء الحوائج، يقول ابن القيم: (كان شيخ الإسلام يسعى سعياً شديداً لقضاء حوائج الناس)، بهذا جاء الدين، علم وعمل، عبادة ومعاملة، ببذل المعروف والإحسان تحسن الخاتمة، وتصرف ميتة السوء، يقول -عليه السلام-: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة) رواه ابن حيان في صحيحه، النفع العاجل والآجل إنما هو ببذل الجاه للضعفاء، ومساندة ذوي العاهة والمسكنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)، ومن للضعفاء والأرامل واليتامى بعد المولى بدعوة صالحة منهم تسعد أحوالك، والدنيا محن، والحياة ابتلاء، فالقوي فيها قد يضعف، والغني ربما يفلس، والحي فيها يموت، والسعيد من اغتنم جاهه في نفع المسلمين، والسعي لخدمة الدين وقضاء الحوائج والشفاعة عند ذوي الوجاهة خير من نوافل العبادة، يقول ابن عباس: (من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه فله بكل خطة صدقة).
* وماذا تقول لمن يتبرمون أو يتململون من كثرة حوائج الناس المراد قضاؤها؟ وهل ثمة شروط لهذه الحاجة؟
- اقول أن السعي في شؤون الناس، زكاة أهل المرؤات، بل إن من المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام - رضي الله عنه-: (ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب)، وأعظم من ذلك أنهم يرون أن صاحب الحاجة منعم، ومتفضل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، يقول ابن عباس -رضي الله عنه-:(ثلاث لا أكافئهم: رجل بدأني السلام، ورجل وسع لأخ المجلس، ورجل أغبرت قدماه في المشي إليّ إرادة التسليم علي، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله، قيل: ومن هو: قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي)، وعلى طالب الحاجة والشفاعة أن لا يطلب الحوائج إلا من أهلها، ولا يطلبها في غير حينها، ولا يطلب ما لا يستحق منها، فإن من طلب من لا يستحق استوجب الحرمان، وليتخير من الكلام أطيبه، ومن القول أعذبه.
* وهل ثمة لوم على من يرد شفاعة شافع في مصلحة لمسلم؟
- لا لوم على من ردت شفاعته، ولو عظم قدر الشفاعة، فقد ردت امرأة سوداء شفاعة سيد الخلق النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عباس -رضي الله عنه-:(كان زوج بريرة عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: ألا تعجب من حب مغيث لبريرة ومن بغض بريرة مغيثاً، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعتيه فإنه أبو ولدك، قالت: يا رسول الله أتأمرني، قال: لا، إنما أنا شافع، قالت: فلا حاجة لي فيه) متفق عليه.
* وما هو واجب الشافع والمشفوع عنده على المشفوع له؟
- إذا قضيت حاجة المرء فينبغي الثناء وتقديم الشكر للشافع والمشفوع عنده، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا شكر الله من لا يشكر الناس) رواه أحمد، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) رواه النسائي، وإذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر، وبإخلاص النية، وحسن المقصد، والاحتساب، يوفق المرء في شفاعته، يقول ابن الجوزي: كان هارون الرقي قد عاهد الله أن لا يسأله أحد شفاعة الا فعل، فجاءه رجل فأخبره أن ابنه قد أسر بالروم، وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه، فقال له: ويحك ومن أين يعرفني وإذاعي، وإذا قيل هو مسلم فكيف يقضي حقي، فقال له السائل: أذكر العهد مع الله، فكتب له إلى ملك الروم فلما قرأ الكتاب قال: من هذا الذي شفع إلينا، قيل هذا رجل قد عاهد الله لا يسئُل شفاعة إلا كتبها إلى أي مكان، فقال ملك الروم: هذا حقيق بالإسعاف أطلقوا أسيره، واكتبوا جواب كتابه، وقولوا له أكتب بكل حاجة تعرض فإنا نشفعك فيها.
* وماذا عن المن أو التغني بقضاء حوائج الناس؟ وهل ينتقص من ثواب المعروف؟
- إن من أعظم ما يفسد المعروف، المنّ به، وذكره عند الناس، فالمنة تهدم الصنيعة، ولا خير في المعروف إذا أحصي، والمعروف لا يتم إلا بثلاث: تعجيله، وتصغيره، وستره، فإنه إذا عجله هنأه، وإذا صغره عظمه، وإذا ستره تممه، ومن محاذير الشفاعة أن تشفع في أمر محرم، أو اقتطاع حق امرئ مسلم، أو إلحاق الضرر به، أو تقديم المؤخر، أو تأخير المقدم، والإسلام دين عدل، يأمر بالمصلحة، وينهى عن المفسدة، والشفاعة في الحدود من أعظم المنكرات.
|