Friday 10th December,200411761العددالجمعة 28 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

قصة قصيرة قصة قصيرة
أكواخ الظلام
لينا حمَّاد صباح

كانت حجرة علوية باردة.. يضيء ظلامها نور القمر إذا اكتمل.. وشمعة تشتعل في خجل فيتوارى ضوءها على بقايا الأشياء التي لا تأخذ من الحقائق إلا اسمها.. سرير هو في الحقيقة قطعة خشب صلبة يتعب الرجل القوي من الاستلقاء عليها..غطيت ببعض المتاع مما يسمى ملاءة وما شابه ذلك.. ووسادة خشنة غير متساوية.. وصندوق وضع بجانب السرير ليكون خزانة صغيرة للطوارئ .. وصندوق أكبر قليلا رصت فيه أسمال فتاة في التاسعة من العمر ثوبين مهترئين يطل منه جسد الصغيرة من أكثر من مساحة.. ومنضدة أقل اهتراء وكرسي أكثر صلابة من السرير.
الجو بارد هذه الأيام من السنة.. وخوفاً من نشوب الحرائق في العلوية لم يكن هناك موقد للتدفئة.. واكتفى أصحاب البيت بزيادة عدد الأغطية فوق جسد الصغيرة. وهكذا تمر ليالي الشتاء.
مرحبا رُبَى.. انتهيت من أداء واجباتي هذا اليوم.. وقلَّبت بين يديها دمية صغيرة ذات شعر أسود ووجه يرتسم عليه شبه ابتسامة.. بدت تلك الابتسامة لا تخص أحداً سوى (سحر).. ترتدي أثواباً بدت فيها آثار العناية.
- في نهاية الشتاء سيأتي العيد.. في العيد سأصنع لك ثوباً جديداً.. واكتسى وجه الصغيرة بموجة من الحزن.. ولكن يا رُبَى لا يوجد لديَّ قماش جديد لأخيط لك الثوب.
- هل ستغضبين مني؟
لا أحب أن يأتي العيد.. لأنني أبكي فيه كثيراً.
- أتذكرين العيد الماضي؟
لم يكن لدينا ما نرتديه.. فقط الملاءة الكبيرة استطعت أن ألتقطها من المهملات.. وصنعت لك ثوباً وجورباً.
- وعادت سحر إلى الابتسام من جديد.. هذه السنة يبدو أن السيدة الكبيرة ستغير بعض الأثاث.. سأحاول ان أصنع لك سريراً صغيراً بجوار سريري.. سيساعدني العم صالح في توفير بعض قطعه.
- أحست الفتاة بلذعة الشتاء.. فارتعدت وضمت رُبَى إلى صدرها وقامت الى النافذة.. كان القمر مكتملاً.. اطفأت الشمعة توفيراً لها.. فقد تعودت ان ينتهي الشمع ونبقى اياماً في الظلام.
- أترين القمر يا رُبَى.. يشبه العم صالح.. انظري اليه.. وأجلست ربى على طرف النافذة.. وجهه يشع بالنور.. وأطفاله الصغار يجرون حوله.. وهناك في وجهه تجاعيد تماماً كما في وجه العم صالح.. ترى هل يشعر بالتعب ايضاً.
- دخلت وأغلقت النافذة.. وعادت تلاعب الدميه.. ثم عادت مسحة الحزن الى وجهها البريء.
هل تناولت طعام العشاء؟ اليوم حرمتني السيدة من الغذاء لانني لم أنظف غرفة الجلوس كما ينبغي، وبختني كثيراً وقرصتني في أذني حتى آلمتني.. خشيت ان أبكي امهامها فتضاعف العفوية.. ولكنها عادت فضاعفت كمية الخبز التي آخذها في العشاء..أعطتني خبزة كاملة.. بدت لي لطيفة هذا المساء.
- لقد بدأت تكبرين يا رُبَى.. وستذهبين الى المدرسة هذا الصيف.. ولان امك لا تعرف الطريق الى المدرسة فسأقيم لك فصلاً خاصاً بك هنا.. وسأعلمك الحروف والكلمات.. عندها يمكنك ان تكلميني في الليالي المخيفة.
- أنا لن اذهب الى المدرسة هذه السنة ايضاً.. سمعت السيدة الكبيرة تقول إن مصاريف المدرسة كثيرة.. كما ان المرض منتشر هناك.. ولكن لماذا لا يصيب المرض (رنا)؟ ربما لانها سمينة يمكنها ان تتحمل، ولكن انا ضعيفة.. لا يهمني كل هذا.. لقد علمني العم صالح الحروف.. كما انني اقضي ليلي معك تماماً كما تفعل رنا اذا ذهبت الى المدرسة.
- رُبَى.. أشعر بالجوع وتغيرت ملامح الصغيرة.. وانعكست في عينيها دمعة حاولت ان تقاومها.. وكذلك بدأت أشعر بالبرد.. وانطلقت الدمعة لتنحدر على خديها الباردين.. وضمت رُبَي الى صدرها بقوة.. لعلها أرادت أن تدفئ صدرها الصغير.. او لعلها أرادت أن تدفئ رُبَى.. وبدأت دموعها تسيل.
- اشتقت لأمي.. لقد قالت السيدة إنها ستعود لتأخذني معها.. قالت إن الاموات يأخذون الاطفال الكسالي.. انا لست كسولة يارُبَى.. ولكنني أريد أن أرى امي.
انت سعيدة لان امك معك.. وابتسمت لها.. ومسحت الدموع من عينيها.. اليوم سألني العم صالح عنك.. قلت له انك تكبرين.. وابتسم لي.. قال: انك ستكونين جميلة مثلي.. رُبَى. ما معني جميلة؟ وما لفرق بيني وبين رنا ؟ هل تلبس دائماً اشياء ثمنية وملابسها بدون رقع؟ ولا يظهر شيئاً من جسمها من تلك الفتحات.. وهي لا تعرف المطبخ.. وتضربني.. انها قاسية.
- اسمعي يا رُبَى.. اذا ذهبتُ لامي سأخذك معي.. ستحبك كثيراً.. انت تشبهيني وامي ستحبك كما تحبني.. العم صالح سيوصلني اليها.. لماذا من يذهب الى الموت لا يعود فقط يذهبون ولا يرجعون؟
- سأقول لامي لانها تأخرت كثيراً.. وانني بكيت كثيراً.. وانني ارتجفت من البرد.. وآلمتني قدمي.. وان السيدة العجوز تضربني وتحبسني.
- لا.. لن أقول لها ستبكي من اجلي.. لا اريدها ان تبكي.. ولكن سأقول لها انني كنت العب معك.. وان عندي ثوبين جميلين.. وان العم صالح كان يعطيني قطعاً من اللحم الجاف لآكله مع الخبر.. ستفرح كثيراً.
- قولي لي.. أتعرفين قصة التفاحة؟
- سأقصها عليك.. يقولون: ان التفاح يتكلم.. ولكن نحن البشر لا نفهم لغته.. ولكنه مثل البشر يختلف في طباعه تماماً كما تختلف ألوانه.. هكذا قال العم صالح.. وقال ايضاً انني من التفاح الجيد.
- هل تريدين النوم.. بدأت تبردين.. سأضعك في سريرك.. هذا سريرنا معاً وابتسمت في رقة.. واستلقت على السرير مع ربى.. نظرت اليها في الظلام ووضعت اصعبها الصغير على أنف الدمية.. انتبهي من البرد.. هل رأيت المدفأة؟
- انها تحمل الكثير من الحرارة.. اتمنى ان يكون عندي واحدة مثلها.. هنا كل شيء بارد.. حتى الاخشاب اشعر انها باردة.. ولكن السيدة الكبيرة قالت ان المكان هنا جميل.. اذاً لابد ان أقبل وأصمت.
- ضمت دميتها وابتسمت. هيا نامي سأعمل كثيراً في الغد.. ولكن سأحاول ان أزورك في ساعات النهار.. ربما لا يمكنني الجلوس معك، ولكن يكفي ان أقبلك يا حبيبتي.
أشرقت الشمس على الغرفة العلوية.. ولم تتحرك الصغيرة.. ذلك أن الليل ولي آخذاً معه روح الصغيرة.. وبقيت معانقة دميتها لتحفر في قلوب الناس صورة من الظلم مقيتة.. أقبل النهار بدفئه.. والصغيرة في ملكوت الله تحلق.. الموتى لا يرجعون، لأن الأخيار يجدون حياة طيبة.. وأنساً ونعيماً.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved