في هذا المقام لن أتطرق إلى محتويات المناهج الدراسية، ولا الأخطاء التنظيمية والشكلية في العملية التربوية والتي أظهرتها حلقة (وا تعليماه)، فهي بالتأكيد محط اهتمام معالي وزير التربية والتعليم. ويمكنني الاستشهاد على وجود ومقدار هذا الاهتمام بمقال للدكتور موسى العويس، أحد المسؤولين في الإدارة العامة للتربية والتعليم بالرياض، نشر في صحيفة الجزيرة بتاريخ 28-9-1425هـ معقبا فيه على تلك الحلقة. وقد كان تعقيبا مسؤلا ينبئ عن عقلية متفتحة تقبل النقد الهادف وتوظفه لمعالجة الأخطاء، وليس بكثير على ذلك التعقيب أن نعده جزءا من عملية المراجعة المفترض أنها تجري الآن للنهوض بالتربية والتعليم إلى مستوى أفضل.
ولما كانت أدلة الحالة التي نحن بصددها موجودة وواضحة للعيان في واقع حياتنا الاجتماعية فإنني لن أخوض في النظريات ذات العلاقة، ولن أستشهد بشيء من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبسبب كون هذه الحالة مركبة من أمراض عضوية ونفسية واجتماعية كثيرة، فسأحاول تبسيطها، وسأختصر بعض المسميات من خلال استخدام ثلاثة مصطلحات مبتكرة هي:
***
(الجاهلية العمياء)
وأعني بهذا المصطلح مجموعة من الأمراض هي: ( الجهل بحقيقة الإسلام -
التخلف - التعصب - التشدد - الغلو - التطرف - تسييس الإسلام واستغلاله - الظلم - الاستبداد - الإرهاب).
(القتل الاجتماعي)
وأشير بهذا المصطلح إلى تشويه السمعة والعزل والإقصاء ثم الإلغاء الذي
يفرضه أصحاب الجاهلية العمياء على من ينتقدهم أو يشكك في نواياهم.
(معادلة القتل الاجتماعي)،
وأشير بهذا المصطلح إلى معادلة استنتجتها من فكر وممارسات أصحاب الجاهلية العمياء، وصورتها كالآتي: ( نقد أصحاب الجاهلية العمياء = المساس بالإسلام).
ورب متسائل عما إذا كانت هناك جاهلية بصيرة، فأجيبه بنعم، فقد واجه الإسلام جاهليتين أولاهما جاهلية الكفر وهي جاهلية كان لمعظم أصحابها بصيرة ثاقبة مكنتهم من رؤية الحق لما جاء فاتبعوه، وحسن إسلامهم قولا وعملا، وكانت لهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرجعية وقدوة حسنة أضاءت لهم سبل الحياة وهذبت أخلاقهم فأسروا القلوب وفتحوا البلدان ونشروا العدل والسلام، أما الثانية فهي الجاهلية العمياء التي تواجه الإسلام اليوم، وهي جاهلية تميز أصحابها بعمى البصيرة، ولهم مرجعية من أنفسهم تهديهم سبل الضلال، هدايتهم غواية، ووعظهم وإرشادهم ومشورتهم تخريب للعقول، أخلاقهم فظة، وقلوبهم مستنقع للغلظة، ولغتهم التعصب والإرهاب.
تتشكل الجاهلية العمياء من هذه الأمراض العشرة مجتمعة، مع ما يرتبط بها من أعراض، وهذه الأمراض لا تصيب الشخص دفعة واحدة بل على مراحل تبدأ بمرض الجهل بحقيقة الإسلام وصولا إلى الإرهاب، ويمثل التعصب جانبا من الداء في كل مرض من الأمراض التي تليه، بمعنى أنه موجود في كل مرحلة من المراحل المرضية التي تأتي بعده، وهذا يدفعني إلى تناول التعصب بشيء من التفصيل، فهو المرض المسؤول -إلى حد كبير- عن الشلل الذي يقعد العقل عن التفكير الصائب، لذلك نجد وجه شبه بين المتعصب والمجنون في موقفهما من التفكير، فالمتعصب لا يقبل التفكير، والمجنون لا يستطيع أن يفكر، على أن المجنون أقل خطرا لانتفاء قدرته على التفكير وإمكانية التعامل معه بإجراءات احترازية معينة، أما المتعصب فيوظف ما بقي لديه من قدرة على التفكير للقضاء على خصومه، فهو لا يرى حسنا إلا ما يفعل، ولا يسمع صدقا إلا ما يقول، وإذا ما أقدم المتعصب فجأة على توظيف الدين لخدمة تعصبه فإنما يعلن بذلك عن وصوله السريع إلى عتبة الإرهاب.
وإذا كان المتعصب يشبه المجنون في موقفه من التفكير عموماً، فإن المتعصب المتعلم يتساوى مع المتعصب الأمي في موقفه من النقد الهادف، فالمتعصب الذي يحمل درجة علمية عالية يرفض النقد بالدرجة نفسها التي يرفضه بها المتعصب الأمي، لهذا نجد الأشخاص المتعلمين الذي أصيبوا بمرض التعصب يعانون من تناقض كبير بين حقيقة الظواهر وتعبيرهم عنها حتى وإن كانوا متخصصين في مجالات تلك الظواهر، فهم في أحيان كثيرة يتعصبون للتفسيرات الخرافية عندما يتحدثون عنها خارج القيود العلمية التي تفرضها مهنهم، كالطبيب الذي لا يزال يؤمن بحلقات استخراج الجن من جسد المريض بالصرع، والفيزيائي الذي لا يزال يشكك في صحة دوران الكواكب حول الشمس، والواعظ الذي يحذر الناس من الكذب ثم يختلق قصصا خرافية ليبهر السامعين ويستميلهم بها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
إن ظهور الجاهلية العمياء بعد الإسلام، وفي هذا العصر بالذات، يستثير السؤال الجدلي عما إذا كان التاريخ يعيد نفسه، وعلى الرغم من أنه لا أمل قريباً في الحصول على إجابة حاسمة إلا أنه يمكنني القول بأن المشكلات القائمة على العامل الديني تتشابه بدرجة كبيرة مهما كانت الفواصل الزمنية بينها طويلة، كما أن المجتمعات تتشابه في شدة معاناتها من هذه المشكلات عندما تحدث مهما كانت الاختلافات الثقافية بينها عميقة وواسعة، وأفظع الكوارث التي اصطنعها الإنسان كانت متدثرة برداء الدين، ولم أجد أن مشكلة قامت لسبب ديني إلا وكان الإرهاب محصلتها، فليس كالدين سلاح فتاك عندما يوظفه الطغاة لحماية أنفسهم، وليس كمثله ما يَصلح لأن يستخدمه البشر كافة لتحقيق أغراضهم، وبخاصة عندما يُستخدم لتأجيج العواطف وإيقاظ الفتن، حتى تلك الفتن التي مرت عليها عشرات القرون. وعلى الرغم من أن هذه هي طبيعة الأديان كلها، وبخاصة عندما يساء استخدامها، إلا أنه لا يوجد دين يتهم بالإرهاب كما يتهم به الإسلام اليوم، إلى حد أنه بقدر ما يظهر على المسلم من تمسك بأصول دينه يكون إرهابيا في نظر المجتمعات الأخرى، دون التفريق بين مسلم أصولي يؤمن بأن احترام الإنسان ونشر العدل والمحبة والسلام بين بني البشر كافة جزء من أصول دينه، وبين مسلم من أصحاب الجاهلية العمياء العدو لكل المجتمعات والأديان وفي مقدمتها المجتمع المسلم والدين الإسلامي.
وتأتي المجتمعات الغربية في مقدمة معتنقي مذهب التعميم هذا، ولعل لهم بعض العذر في ذلك، فأصحاب الجاهلية العمياء قد اتسموا بسمات أهل الخير في شكلهم الظاهر إلى درجة التبس فيها الأمر حتى على المجتمعات المسلمة، ولا أعتقد أن بيننا أحد لم يعان من هذا الالتباس والحيرة، وتحت هذه المظاهر الخادعة تمكن أصحاب الجاهلية العمياء من تخريب عقول كثير من أبناء مجتمعنا وضمهم إلى هذه الجاهلية من خلال الأنشطة العلنية المشبوهة التي يقيمونها في أماكن كثيرة، والاجتماعات المفسدة التي يعقدونها سرا في عمق مجتمعنا، وهذه المظاهر هي التي أتاحت لمعظم منظري هذه الجاهلية ودعاتها فرصة للاختفاء في الوسط الاجتماعي بعد أن نفثوا سمومهم وأحدثوا خسارة فادحة لمجتمعنا، وهم الآن مندسون فيه كالأفاعي ينتظرون كل سانحة لترويج مزيد من أفكارهم التخريبية، ومن الصعب جدا اكتشافهم بوسائلنا التقليدية المعتادة كالمتابعة والتحري، لذلك أطالب بمراجعة علمية للإنتاج السمعي والمقروء لكل من سبق أن اختلقوا أو أثاروا مشكلات من خلال أنشطتهم من خطب ودروس ومحاضرات ومؤلفات ومنشورات، لتحديد مدى مساهمة كل واحد منهم في نشوء الجاهلية العمياء، وأنا على يقين بأن هذه المراجعة، لو تمت بكفاءة، ستظهر أمور ما كانت تخطر ببال أحد، والأمر ليس مستحيلا فهناك مؤشرات فعالة لتحديد نوع هذه المساهمة ومداها، ويجب إذا ما توفرت، كلها أو بعضها، في إنتاج أحد أن يعاقب ويكلف بالمساهمة الفعالة في علاج الأمراض التي أصاب بها مجتمعنا.
لقد استغل منظرو الجاهلية العمياء كثيراً من الخصائص الثقافية للمجتمع السعودي استغلالا بشعا لبسط وتحقيق أهدافهم، فهذا المجتمع طيب بطبعه، وكثير من أبنائه يتصرفون بعاطفة جياشة وحساسية شديدة نحو كل ما له علاقة بالدين. . هذه الطيبة والعاطفة جعلتهم يصدقون كل من تبدو عليه سمات التقوى والصلاح ويطمئنون إليه، دون أي تحفظ أو تساؤلٍ عما إذا كانت هذه السمات موجودة فيه بالفعل أم أنها مجرد قشور وأقنعة تخفي وراءها المساوئ كلها، ومن يراقب ويحلل تصرفات أصحاب هذه الجاهلية، من منظرين ومنفذين، يجد أنهم يعمدون إلى هذا الاستغلال في كل رد فعل غاضب لهم، وفي كل تبرير يسوقونه لتسويغ جرائمهم ودوافعهم، وقد نجحوا في استغلال وتوظيف هذه الخصائص الثقافية حتى كرسوا في الأذهان معادلة للقتل الاجتماعي لا تقل في أثرها عن أقسى الأدوات المستخدمة في القتل الجسدي، وصورة هذه المعادلة تقول: (نقد أصحاب الجاهلية العمياء = المساس بالإسلام) والتي عن طريقها استطاعوا قتل كثير من خصومهم اجتماعياً ونفسياً، وهذه المعادلة تمثل اليوم واحداً من أهم الأركان التي تقوم عليها هذه الجاهلية، وهي دعاء الاستفتاح في كل فتوى تكفيرية.
ولقد وجدت في كل ما أتيح لي الاطلاع عليه من ردود الأفعال الغاضبة على قضايا نقد أصحاب الجاهلية العمياء أنها لم تخرج عن مضمون وسياق هذه المعادلة، بما في ذلك بعض ردود الأفعال الغاضبة على حلقة (وا تعليماه) ومن يراجع بعض تلك الردود الغاضبة المتعصبة يجد أصحابها قد ركزوا على اتهام هذه الحلقة وشخصياتها الحقيقة بالتطاول على الإسلام وعلمائه، وأنها تضمنت تصريحا بأن مدارسنا معتقلات فكرية، وأن مناهجنا صكوك كفرية، وقالوا بأنها تتضمن موالاة لمن حاد الله ورسوله لكونها تقدم لهم دليلا يدعم اتهامهم للإسلام بالفساد والتخلف والإرهاب، وقالوا بأنها مليئة بصيغ التعميم والتحيز، كل هذا على الرغم من أن تلك الحلقة قد قدمت نماذج لجميع الفئات الفكرية المعروفة في مجتمعنا، وليس اختيار المدرسة - كما فهمت - إلا لأنها مجال يضم كل أجيال المجتمع تقريبا، كما أن التفاعل الذي جسد بعضا من أساليب الجاهلية العمياء لا يمكن أن يتوفر على ذلك النحو من التركيز والتضاد والوضوح وتحت مظلة الأنشطة المشروعة في أي مكان خلاف المدرسة، هذا فضلاً عن رغبة الطاقم الذي يقف خلف هذه الحلقة في التنبيه بهذا الشكل المؤثر إلى أن المدرسة من أخطر البيئات التي تسري فيها أفكار الجاهلية العمياء، ولو لم يكن في تلك الحلقة من فوائد إلا أنها أثارت فينا عدداً من الأسئلة المهمة لكفت، ومنها:
* إلى أي مدى تضيق كثير من العقول والقلوب في مجتمعنا بالنقد الهادف؟.
*إلى أي مدى وصل نفوذ أصحاب الجاهلية العمياء؟.
* إلى أي مدى نساهم في تخريب عقول أبنائنا عندما يتلقون معلومات متناقضة عبر العملية التربوية؟.
* إلى أي مدى يمكن أن يمارس أصحاب الجاهلية العمياء ضغوطهم الجبارة على ناشئتنا لكي يتبنوا أفكارهم طوعاً وكرهاً؟.
ومن يمعن التفكير في معادلة القتل الاجتماعي سيكتشف خطورتها على الحراك الاجتماعي والفكري لأي مجتمع مسلم توجد فيه، وسيكتشف أيضاً خطورتها على أمن واستقرار المجتمع ونظمه، فهي تمثل حاجزاً يحمي أصحاب الجاهلية العمياء من النقد، وهذه الحماية تخلق حولهم هالة تكاد تعمي الأبصار عن خطرهم وعيوبهم، وتحبط كل مخلص وتثنيه عن توجيه النقد لهم، وتجعله يقضي الوقت كله في التفكير حول ما إذا كان نقده سيجد أذناً صاغية تسمعه وعقلاً يتقبله، ولست أبالغ إذا قلت أن هذه الهالة قد جعلت كثيرين من أبناء المجتمع يعتقدون أنهم سيعاملون كما لو أنهم أتوا كفراً إن هم انتقدوا أحداً ممن تلفهم هذه الهالة أو شكوا فيه، ويزداد الخطر عندما يتمتع بهذا الحاجز أشخاص من أصحاب الجاهلية العمياء ممن يعملون في مواقع أو أدوار ترتبط بها بعض مصالح المواطنين، لأن أصحاب هذه المصالح سواء كانوا طلاباً أو موظفين أو غير ذلك سيضطرون إلى المجاملة سعياً وراء مصالحهم واتقاء للقتل الاجتماعي، وشيئاً فشيئاً حتى يُصدق من في يدهم هذه المصالح أنهم عظماء ثم يبدؤون في مطالبة المجتمع بمعاملتهم على هذا الأساس، ويوجهون ما استطاعوا من أنشطة المؤسسات الرسمية والأهلية التي يعملون فيها لدعم جاهليتهم فكرياً ومادياً، بأساليب مباشرة وأخرى غير مباشرة، ومن هنا يزداد نفوذهم، وبازدياد النفوذ يزداد الحاجز الذي يقيهم من النقد صلابة، فيزداد المعجبون بهم والأتباع والمريدون، وهذا واحد من أهم الروافد التي تمد هذه الجاهلية بالمال والمجندين.
من الواضح لكل من يراقب الأحداث بعين النقد والتحليل أن منظري الجاهلية العمياء لا يتورعون عن توظيف أي وسيلة لاستمالة المستهدفين وغسل أدمغتهم وتجنيدهم، فنجدهم -على سبيل المثال- يختلقون قصصاً خرافية لا تصدق، لكنهم يربطونها بالدين ويغلفونها بمسمى الكرامات حتى لا تبقى فرصة للتساؤل عن مدى قابليتها للتحقق من عدمه، وهي قصص تنقل المسلم المهزوم ما بين طرفتي عين إلى وضع الغالب المنتصر ولكن عن طريق الوهم، وسيجد كذلك أنهم يصوغون أهدافاً في غاية الروعة، ويهونون أمر المستحيل منها، ولكون هذه الأهداف ممكنة من الناحية النظرية فإن المستهدفين يتقبلونها ويتمثلونها دون تفكير، فضلاً عن كون هذه الأهداف تقدَّم إليهم بأساليب تجعلهم يتصورون أنه بمجرد التنفيذ العملي لأفكار هؤلاء المنظرين ستنزل عليهم الكرامات والخوارق التي تمكنهم من تحويل المستحيل منها إلى ممكن، وأتصور أن المستهدفين يخرجون من بعض الدروس مقتنعين أنه بمجرد العمل في ميدان الجاهلية العمياء سيمتلكون الخوارق والكرامات التي تمكنهم من تحويل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا إلى خلافة إسلامية ما بين عشية وضحاها، وهذا التبسيط أو التهوين للأهداف، والترغيب في التمتع بالكرامات والخوارق يوفر إغراء شديداً للشباب بالانخراط في الجاهلية العمياء والتهافت على منظريها، حتى إذا ما أصبحوا في ميدانها العملي الذي سمي زوراً وبهتاناً ب(الجهاد) صدمهم الواقع، ولم يجدوا، بالطبع، كرامات ولا خوارق، وبان لهم أن الأهداف التي قُدمت لهم أصبحت معلقة بآخر الكون، وقد كانت أقرب إليهم من أنوفهم عندما سمعوها للوهلة الأولى، لكنهم في اللحظة التي يتلقون فيها صدمة الواقع يكونون قد انزلقوا في الإرهاب وتشبعوا به فكراً، وأصبحت طرق العودة في نظرهم مغلقه، وأكثرهم يرى أن العودة عما سبق أن عزم عليه وبدأه يعد من قبيل التولي يوم الزحف. وقد استشعر منظرو الجاهلية العمياء خطورة التساؤلات التي تولدها هذه الصدمة فأعدوا لها إجابات هي من صميم أهدافهم سلفاً، وتتمثل في حقن الأدمغة المصدومة بقناعات مضمونها أن الله - وتعالى الله عن إفكهم العظيم - غاضب عليهم لأن أنظمة الحكم في الدول الإسلامية هي التي عطلت ورود الكرامات والخوارق، وهي التي تعيق أهدافهم وتحطمها، وتحول بينهم وبين الوصول إلى من يسمونهم ب(أعداء الله) وهم لم يبذلوا من الجهود ما يصلح هذه الحكومات ويوقفها عند حدها، وهنا تتشكل لدى هؤلاء المنفذين، وهم من الشباب غالباً، قناعة بأن عليهم إذا ما أرادوا رضا ربهم، وخدمة الإسلام، وإعادة بناء الأهداف المحطمة وتلقي الخوارق والكرامات لتحقيقها، أن يبدءوا بحرب أنظمة الحكم في بلدانهم الإسلامية.
وأستطيع التأكيد على أنهم عندما يقومون بقتل الأجانب في أي من هذه البلدان، ويفجرون مصالح المجتمع، فإنما تسيطر على عقولهم هذه القناعة، وتدفعهم شعورياً ولا شعورياً إلى الاعتقاد بأنهم يقتلون أعضاء الحكومة ويفجرون تحت كرسي الحاكم نفسه، وهكذا تستمر المعركة الخاسرة بين المجتمع وأبنائه. . معركة يتحول فيها الإسلام على يد أصحاب الجاهلية العمياء من مصدر لقوة وأمن وتقدم المجتمع إلى مصدر لضعفه وخوفه وتخلفه.
وبالإضافة إلى الخرافة وتبسيط الأهداف نجد أن من الوسائل الخطيرة لهؤلاء المنظرين ما يمكن تسميته بالصدمة الإرهابية، وتتمثل في تعريض المستهدفين بالاستمالة والتجنيد لتجارب عملية مرعبة، أو صور حسية تحدث الأثر نفسه يتم رسمها بالكلمات والمؤثرات الصوتية من بكاء وعويل وانتحاب وتكرار للجمل المؤثرة أو الآسرة، تحوِّل الواحد منهم إلى وحش بشري، وتحولهم جميعاً إلى مطايا لمنظري هذه الجاهلية، لكونها تنزع عنهم عواطف الشفقة والرحمة والحب، وتفقدهم القدرة على التفكير المنطقي، وبالتالي تسلبهم آليات التكيف مع أنفسهم ومع مجتمعهم.
وسأعرض باقتضاب لحادثتين واقعيتين، على أمل أن توضح الحادثة الأولى كيفية سوق الخرافات لتحقيق الانبهار لدى المستهدفين وغسل أدمغتهم تمهيداً لزرع الأفكار الإرهابية، وكيفية تهوين الأهداف الصعبة لهم لتحقيق الإغراء تمهيداً لصدمة الواقع لاحقاً ومن ثم تحويلهم إلى أعداء لحكومات ومجتمعات بلدانهم، أما الحادثة الثانية فآمل أن توضح ما أعنيه بصدمة الإرهاب التي تُحَوِّل المستهدفين بالاستمالة والتجنيد إلى تلك الوحوش البشرية والمطايا الطيعة لمنظري الجاهلية العمياء.
ففي الحادثة الأولى قدر لي أن استمع إلى واحد من منظري هذه الجاهلية عندما كان يقص إحدى الخرافات على مجموعة أغلبهم من المراهقين الصغار والشباب، وقد بدت عليهم علامات الدهشة والانبهار والرغبة في ممارسة التجربة. . قال: (زرت أفغانستان وأردت مشاركة إخواننا هناك في الجهاد، وفي إحدى المعارك أطلقت قذيفة باتجاه العدو الذي كان يحتمي من نيران المجاهدين خلف جبل شاهق، فرأيت ما يشبه الإنسان لكنه بجناحين أبيضين كبيرين وقد احتضن القذيفة فور خروجها من فوهة المدفع واتجه بها نحو ذلك الجبل لتنسفه عن الوجود وينكشف العدو أمامنا، وهذه القذيفة في الأصل قد لا تعطل مركبة متوسط الحجم) ثم هلل وكبر ملياً.وحين فرغ من خرافته هذه لم أستطع الصبر فسألته: لماذا لم يتجه بها ذلك المخلوق مباشرة إلى عدوكم خلف الجبل فينسفه، وهذا أضمن للنصر وأسرع؟ فتبرم وجهه ثم قال: (لله في ذلك حكمة)، وقد شاهدت في أعين الحاضرين نظرات الغضب لأنني ضايقت بسؤالي شخصاً أصبحوا يعدونه من أولياء الله، وهم بعد أن منحوه هذه المنزلة لا يمكن أن يَعرضوا قولاً من أقواله أو فعلاً من أفعاله على العقل أبداً، بل يصبح حقيقة لا يرقى الشك إليها.
أما الحادثة الثانية فقد خرجت يوماً للنزهة إلى مكان جميل، وحين جلست فيه شد انتباهي وجود قبر محفور، وانتابتني الشكوك لأن هذا المكان للتنزه ولا يمكن لعاقل أن يحفر فيه قبراً، اللهم إلا أن تكون هناك جريمة، لكنني هدأت قليلاً عندما تأكدت أنه خالٍ، وبينما أنا جالس رأيت مسناً يهش على غنمه باتجاهي، ولم يتردد عندما دعوته لتناول الشاي، وأخذ يحدثني عن أشخاص أقاموا مخيماً في هذا المكان خلال الأيام الثلاثة الماضية وغادروا قبل قليل، لقد أسهب في وصف ما شاهده من أنشطتهم عندما جلس معهم ظهر هذا اليوم ومنها أن (الأولاد) كانوا (ينسدحون) في هذه الحفرة بالتناوب ثم يقوم البقية بتغطية الحفرة بالسجاد وأغصان الشجر على القابع بداخلها في هيئة الميت، بينما يقوم واحد ممن أسماهم ب(المشايخ) بتوجيه الأسئلة إليه عن حاله وعن اليوم الذي سينزل فيه إلى القبر ميتاً، وعن تعرضه للحساب، فإما أن يوسع له في القبر وإما أن يضيق عليه، وهكذا واحداً واحداً، ثم امتزجت كلمات ذلك المسن بالضحك وهو يروي لي كيف أن بعضهم كان يخرج من القبر في حالة رعب ثم يجهش ببكاء شديد، والبعض منهم لم يستطع تناول وجبة الغداء. مثل هذه التجربة المرعبة يعود بعدها الشاب إلى أسرته ليشن عليها حرباً حقيقية، ويمارس الضغوط على أقرانه، وبخاصة من يصغرونه سناً، ليتبنوا الأفكار نفسها، فقد أصبحت لديه قضية هي تغيير ما يعتقد بوجوده من منكرات لدى أسرته ومجتمعه كي ينجو من ضيق القبر ويوسع له فيه، وتحت وطأة هذه الحالة من الرعب يرى أن الهدف من حياته أصبح محصوراً في تغيير هذه المنكرات بيده ولسانه وقلبه معاً، ومن لم يتعرض لمثل هذه التجربة سيتعرض لما يعادلها أو أفظع منها من خلال ما يمارسه منظرو ودعاة الجاهلية العمياء بحق هؤلاء الضعفاء من أساليب الاستمالة والإقناع، وأساليب التخويف والترهيب الناتجة عن رسم الصور المفزعة بالكلمات المصحوبة بالعويل والبكاء المفزع، والذي لا زلنا نسمعه إلى اليوم حتى في بعض المساجد، وفي أشرطة سمعية تباع في أماكن كثيرة من مجتمعنا، والمحصلة في كل هذه الأحوال هي تبني الناشئة للأفكار المضادة لمجتمعهم، والتي بدؤوا بتطبيقها على أسرهم، ثم اتسعت الدائرة حتى وصلت إلى مرحلة الإرهاب التي يعاني منها مجتمعنا اليوم.
لقد كانت بعض هذه المخيمات الإجرامية منتشرة في طول البلاد وعرضها وهي في حقيقة الأمر مخيمات إرهابية تضرب أطنابها في أحشاء الوطن على شواطئ البحار وفي الجبال والغابات والصحراء، وكان كثير من أبناء مجتمعنا من ذوي المراحل العمرية الحرجة يمكثون فيها لمدد قد تصل إلى الأسابيع، يتعرضون فيها لتجارب مروعة، ويتلقون خلالها دروساً تفوق في خطرها عملية غسيل الأدمغة، وكثير من الأسر السعودية التي ابتليت في أبنائها تتذكر كيف أن هذه التجارب والدروس أحدثت تصدعاً وتفككاً أسرياً ما زالت كثير من الأسر تعاني منه حتى اليوم، على الرغم من أن معاناة بعض الأسر قد بدأت قبل سنين عديدة. . كان معظم الأبناء يعودون إلى أسرهم بعد هذه التجارب والدروس المخربة وقد تغيرت أخلاقهم وطباعهم، واصبحوا ينظرون إلى آبائهم وأمهاتهم على أنهم كفرة لمجرد أنهم يشاهدون التلفزيون ويسمعون الموسيقى ويقرؤون المجلات، وفي حوادث كثيرة يقوم هؤلاء الأبناء بتحطيم أجهزة التلفزيونات والفيديو وكمرات التصوير، ويحرقون ألبومات الصور الموجودة لدى أسرهم، ومنهم من ينهال بالضرب على إخوانه وأخواته، ومن لا يستطيع فعل ذلك ينعزل في إحدى الغرف تحت وطأة الاعتقاد بأن أسرته ترتكب المعاصي والمحرمات، وتتضخم ذاته المريضة بسرعة فيمارس سلوكيات يقصد بها تربية أمه وأبيه، وكثيراً ما سمعنا عن أب تفاجأ بأن ثيابه أصبحت قصيرة جداً ليكتشف أن ابنه قد قام بتقصيرها كممارسة وعظية وربما دعوية، وعن أم تفاجأت باختفاء بعض ملابسها وملابس بناتها لأن لديها ابناً من هؤلاء الضحايا يعتقد أن تلك الملابس ضيقة وأنهن يصبحن من الكاسيات العاريات عندما يلبسنها، إلى غير ذلك من الأحداث والتغيرات والتداعيات التي جلبتها الجاهلية العمياء على مجتمعنا. ومما هو جدير بالملاحظة والتنبيه أن تجاوزات الأبناء على أسرهم تحت وطأت هذه المؤثرات، وما حدث من تصدع وتفكك أسري في أعقابها، لم تكن حالات فردية تندرج ضمن الأسرار الأسرية، ومع ذلك لم تقم الأجهزة المعنية برصدها والتعامل معها، بوصفها مؤشرات قوية على بوادر إشكاليات اجتماعية خطيرة. ولو أن هذا الرصد تم بكفاءة ثم درست هذه المؤشرات علمياً وأمنياً لكان أمكن تلافي كثير من المشكلات على كافة الأصعدة. فنحن لا نريد من أجهزتنا الأمنية أن تكون ناجحة في تعقب الجناة بعد أن ينفذوا جرائمهم فقط، بل نريد منها بالإضافة إلى ذلك أن تكون ناجحة في رصد المؤشرات الدالة على وجود احتمال بحدوث تغير ما ليس في صالح أمن المجتمع، ويتأتى ذلك عندما تضم هذه الأجهزة كفاءات لديها حس علمي واجتماعي يمكنها من استشعار هذه المؤشرات، ومن ثم تتبعها وتحليلها والتصدي لها.
إن مجتمعنا يواجه أزمة خطيرة، وأملي في الله أن لا تتحول إلى كارثة، وخليق بنا كأفراد ونحن نعالج هذه الأزمة كل حسب استطاعته، وخليق بالجهات المعنية وهي تضع البرامج الوقائية للحيلولة دون تحولها إلى كارثة، أن نضع نصب أعيننا سؤلاً رئيسياً يقول: إلى أي مدى أصبحت الجاهلية العمياء تهدد كيان مجتمعنا ومقومات وجوده كدولة؟.
ويؤسفني كثيراً أنني استخدمت في سؤالي هذا وغيره من الأسئلة الفرعية التي طرحتها في هذا الموضوع صيغة (إلى أي مدى)، فالموضوعية قد فرضت عليّ هذه الصيغة وما كنت أريدها، فهي تعني أن الضرر أصبح واقعاً معاشاً، وهذا أمر ليس بمقدور أحد إنكاره، وينبغي علينا الآن أن نحدد مداه لكي تكون المعالجة على المستوى نفسه، فقد باتت الجاهلية العمياء وباء ينهش جسم مجتمعنا بقوة، وليست في انحسار أو في مستوياتها المتدنية، أو أنها مجرد مماحكة بين تيارين في المجتمع منشغلان بالتصارع المتوازن كما يردد أو يعتقد البعض، وما من سبيل لمواجهة هذه الجاهلية سوى الاعتراف بوجودها على هذا القدر وهذا المستوى من الخطورة، ودراستها وتحديد أسبابها بكل دقة ووضوح دون مواربة لمن ساهموا في وصولها إلى هذا المستوى ممن يمكن أن يكونوا اليوم في مراكز رسمية أو اجتماعية مؤثرة، ومن ثم صياغة استراتيجية علاجية وإنمائية ووقائية لمكافحتها، ليس على مستوى من ألقي القبض عليهم فحسب،
فهم لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة من أصحاب الجاهلية العمياء، كتلك النسبة التي تمثلها قمة جبل جليدي ظهرت فوق السطح بينما تختفي أجزاؤه الضخمة تحت الماء؛ وإنما على مستوى المجتمع بأكمله، وليس على مستوى الاهتمام بالإرهاب كأهم مرض من أمراض هذه الجاهلية في نظر البعض، وإنما على مستوى الأمراض العشرة التي تتشكل منها هذه الجاهلية اللعينة، ذلك لأن المواجهة مع جاهلية برمتها وليست مع أجزائها، فنحن عندما نكافح واحداً أو اثنين من هذه الأمراض ونغفل الأمراض الأخرى فإنما نكافح مكافحة جزئية، في حين أن الواحد من تلك الأمراض العشرة لا يقل خطراً عن أي مرض من الأمراض التسعة الأخرى، وإن بدا لنا أنها تتفاوت في خطورتها، فالصحيح أنها مركبة ومتكاملة ومنتجة لبعضها البعض.
ومما هو ضروري في استراتيجية المكافحة هذه أن تكون التربية الصحيحة على رأس الوسائل التي تستخدمها، وأن يكون كل من المسجد والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام في مقدمة آلياتها، على أن فائدة هذه الاستراتيجية ستكون محدودة، وربما معدومة، إذا لم تواكبها إصلاحات بنيوية، بمعنى أن تكون الإصلاحات شاملة لجميع أنساق البناء الاجتماعي، وليست مجرد إصلاحات وظيفية وجدت لتؤدي غرضاً معيناً ثم تنته.، ولعله يأتي في مقدمة هذه الإصلاحات البنيوية معرفة استحقاقات المرحلة التي نمر بها. ومن أهم هذه الاستحقاقات الإعلاء من قيمة النقد الهادف، وإزالة الحواجز من أمامه كي يجد في مجتمعنا ميداناً أرحب، وأن نحترم الإنسان فينا. . نعم: نحترم الإنسان فينا ولا نلغيه، فإذا اتفقنا على هذا الاحترام ومارسناه فلن يضيرنا أي اختلاف في الرأي بعد ذلك حتى لو اختلفنا في كل شيء.
Midwah@hotmail. com
|