لَئِن كان الشاعر قد قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
فإن دين الإسلام: منبع الأخلاق، وموطن الفضيلة، سواء في التّعامل أو في حسن الأدب، وفي الصدق والأمانة، أو في العفاف وحبّ الخير والبعد عن الشر، أو في الوفاء وتنفيذ الحدود الشرعية، التي تجتث الجريمة، أو في أي شعبة من شعب الحياة ومناحيها، والتي سنمر بإذن الله ببعضها لإبراز المُثل التي تدحض ما يجسمه الخصوم، حيث يصِمُون الإسلام وتعاليمه بالإرهاب.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}، وإنما هي صفات تُصْلح النفس جماعة أو فرداً، وتتوق إليها البشرية، ذلك أن محمداً عليه الصلاة والسلام مثال رفيع للأخلاق، وحسن الأدب: تطبيقاً وتعليماً، فحملت ذلك عنه الصفوة الأولى في الإسلام، حيث مدحه ربّه بذلك فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم 5)، ولما سأله أبو بكر قائلاً: يا رسول الله من أدّبك؟ أي علمك قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وعائشة قالت لما سئلت عن خلقه عليه الصلاة والسلام؟: كان خلقه القرآن، ذلك أنه أخذ هذا الخلق السمح، ولين الجانب من تأديب الله له في مثل: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران 159)، و{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل 125).
وما ذلك إلا أن القارئ لكتاب الله، يجد توجيهات في الأخلاق والتعامل، رفيعة المستوى، وعظيمة الدلالة، فأخذ الصحابة عن رسول الله دروساً واعية، وبثّوها في أبناء الإسلام جيلاً بعد جيل قدوة حسنة، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطامن تواضعاً لأي فرد من الأمة، فقد جاء أعرابي لمجلسه وهو مع أصحابه، فامتلأ قلبه رعباً، وارتعدت فرائصه مهابة، فطمأنه عليه الصلاة والسلام بقوله: (هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد).
حتى مع الكفرة والمعاندين لم يأمره ربّه بالشّدة والغلظة عليهم أثناء الدعوة، لذلك كان يأمر أمّته بأن يكونوا مبشّرين غير منفّرين، وميسّرين وليسوا معسّرين، ويحثّهم على الرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، يضرب القدوة بنفسه فكان مرغباً حتى يسمعوا منه، ومتواضعاً حتى يتجرأوا عليه بالسؤال، وقدوة حسنة حتى يتأسّوا به.
وما ذلك إلا أن الفحش والتَّفحش، والغلظة والشدة، ليست من الإسلام والرسول هو المعلم الأول للمسلمين، فمبدأه: (أحسن الناس إسلاماً أحسنهم أخلاقاً)، رواه الترمذي وفي الجهاد ومصاولة أعداء دين الله، من أجل إقامة شرع الله، وإفراده سبحانه بالعبادة، يوصيهم بحسن الدعوة، وأن يغزوا على بركة الله، وألا يتّبعُوا مُدْبراً، ولا يقتلوا شيخاً كبيراً، أو امرأة أو غلاماً، وأن يدعوا غيرهم من الأمم إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب، وينظروهم ثلاثاً، فإن أصرّوا على كفرهم قامت عليهم الحجة.
ويؤصل فيهم مكارم الأخلاق، ليُشْعِروا الآخرين، بأنّ دينهم الإسلام - الذي لا يقبل سبحانه ديناً سواه - هو دين صلاح وفلاح، فيه صلاح الدنيا، وفلاح الأخرى، ودين المحبة والألفة: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فلا يقابلون أحداً بالحسد والبغضاء، ولا يثيرون النزعات، وتحريك المؤثرات، بل تتصافى قلوبهم لمن أحب هذا الدين، ودخل فيه أو سالم أهله، ليكونوا إخوة متعاونين على الخير {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات 10).
وما رفع الله قدرهم، وسلك المحبّة فيما بينهم من أقصى العالم إلى أقصاه، وهم من أعراق شتى، وطوائف متباينة، إلا بألفة هذا الدين، وما في تعاليمه من مُثلٍ عليا، طغت على القلوب حتى تآلفت {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (الأنفال 63).
وما ضعفت مكانتهم وتداعَتْ عليهم الأمم إلا بعد ما ضعف في قلوبهم وأعمالهم، الاهتمام بأخلاق الإسلام، والمحافظة عليها مثل ما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم، يحرصون عليها تطبيقاً وحسن عمل.
يقول أحد المستشرقين المنصفين، بعد دراسته للإسلام وما فيه من تشريعات بمصدريه: لو طبّق المسلمون تعاليم دينهم، كما في القرآن والسنّة، لما احتاجوا إلى المحاكم ودور الشرطة، ولدخلت أوروبا إلى الإسلام طواعية.. لكنّ رجال الغرب يجدون أعمالاً تناقض تشريعاً فيحتار المنصفون منهم.
ونؤيد ما قاله هذا المتحدث: بما عرف عندنا في هذه البلاد، بعد توحيد شملها على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله، فإن البعيد قد تحدّث عن الأمن الذي لا مثيل له، قبل القريب، رغم بساطة أحوال الناس، وضعف موارد الدولة، وفقر البلاد، ذلك الوقت: ومع هذا فإن حقوق الناس مضمونة، وأعراضهم مصونة، وتعاملهم فيما بينهم مستقيمة أموره، وكل فرد يراقب الله في خلواته، ويحاسب نفسه في تعامله، فضلاً عن اهتمامه بعباداته. ولا يمرّ أحدهم بالقاضي في مشكلة أو قضية اللهم إلا للسلام، أو من أجل السؤال عن أمر يهمه في شئونه الدينية، حتى يطبقوا عن يقين، هكذا يربِّي الإسلام أبناءه ليكون المجتمع آمناً.
ومكّنَتْ فيهم تلك الأخلاق، عدم الرضا، بالإساءة لأحدٍ، بلسانه أو في تعامله سواء كان شريفاً أو وضيعاً، وسواء كان سيداً أو مسوداً، ولو حصل خطأ نبهه غيره ليتراجع، وإن تمادى شدّدوا عليه، وإلا شهر به في هذا المجتمع المتعاضد، والحريض على التمسك بآداب الإسلام، ليصبح منبوذاً يتحاشاه النّاس.
ولعل المتابع لتاريخ الإسلام، وانتشاره في أرجاء الأرض، يُدْرك سر محبة شعوب الأرض للإسلام، لأن كثيراً من البلاد لم تمر بها جيوش المسلمين، وإنما رغبة في دين الله بالقدوة الحسنة، وحسن أدب وأخلاق وأمانة تجار المسلمين الذين تعاملوا معهم كما في شرق آسيا وجنوبها، ووسط وجنوب أفريقيا وغيرها.
ولم ينتشر الإسلام بالسيف، كما يجسّمه ويشيعه أعداء الإسلام، ولا بالقوّة كما يتحدّث عنه المغرضون، ونموذج حسن الخلق والتعامل الطيب، ما حصل لسفّانة بنت حاتم التي أسرت ورفضتْ الإسلام، وكلما مرّ بها رسول الله دعاها برفق للإسلام فتأبى وتقول: إن تمنن تمنن على مستحق، وإن تعف تعف عن كريم، فإني بنت حاتم الطائي الذي يكرم الضيف، ويفك الأسير ويعين على نوائب الدهر. يحصل هذا في ثلاثة أيام ولم تستجب، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: خلّوا عنها فإن أباها يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق، ولو كان مسلماً لترحمنا عليه.. وأرسل معها من يوصلها إلى أخيها في الشام الذي هرب إليه، فلما وصلت إليه مدحَتْ له أخلاق رسول الله وتعامله ودعته للإسلام فجاءا للمدينة مسلمين وافدين مع أهلهما على رسول الله، وإن من الواجب على المسلمين اليوم أن يتمثلوا بذلك طبعاً لا تطبعاً وخلقاً ثابتاً لا تصنعاً، بلسان الحال لا بلسان المقال: هذا هو ديننا وهذه أخلاقه التي نتعامل بها.
حكاية عجيبة
ذكر ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه في رواية ابن عساكر بسنده إلى حميد بن هلال العدوي، قال: حدثني ابن عمر أخي أبى قال: خرجت مع أبي مسلم الخولاني في جيش، فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لأهل القرية، أين المخاضة؟ فقالوا: ما كانت ها هنا مخاضة، ولكن المخاضة أسفل منكم، على مسيرة ليلتين، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبيدك وفي سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم.
ثم قال: اعبروا بسم الله.
قال ابن عمر: وأنا على فرس، فقلت: لأدفعنّه أول الناس، خلف فرسه، قال: فو الله ما بلغ الماء بطون الخيل، حتى عبر الناس كلهم، ثم وقف أبو مسلم وقال: يا معشر المسلمين، هل ذهب لأحد منكم شيء، فادعو الله تعالى بردّه؟.
وروى البيهقي في الدلائل، من طريق سليمان بن مهران وهو الأعمش عن بعض أصحابه قال: انتهينا إلى دجلة، وهي مادة - أيْ زائدة المياه حتى حافة الشاطئ - والأعاجم خلفها، فقال رجل من المسلمين: بسم الله، ثم اقتحم بفرسه، فارتفع على الماء، فقال الناس: بسم الله: ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء.
فنظر إليهم الأعاجم فقالوا: ديوان ديوان، أي مجانين، ثم ذهبوا على وجوههم، قال: فما فقد الناس إلا قدحاً، كان معلقاً بعلابه السّرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم واقتسموا، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء ببيضاء؟
وبعد أن أورد -رحمه الله- نماذج من هذه الكرامات قال: فهذه كرامات لهؤلاء الأولياء، هي معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم إنما نالوها ببركة متابعته، ويمن سفارته، إذْ فيها حجة في الدين، أكيدة للمسلمين، وهي مشابهة نوح عليه السلام، في مسيره فوق الماء بالسفينة، التي أمره الله تعالى بعملها، ومعجزة موسى عليه السلام في فلق البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك، من مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنه ماء جار، والسير عليه أعجب من السير على الماء القارّ الذي يجاز (البداية والنهاية 6: 319-321).
|