Thursday 9th December,200411760العددالخميس 27 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "سماء النجوم"

المأزق...! المأزق...!
قصة: خليل الفزيع

مطعم الميناء واحد من أهم معالم المحمدية.. مدينة النفط المغربية المطلة على المحيط.. الواقعة في منتصف الطريق بين الرباط والدار البيضاء.. في هذا المطعم يحلو له ولزوجته تناول طعام العشاء كلما سنحت الفرصة.. لقد استهواهما هذا المطعم المصمم على الطراز الإسباني.. بجوه الرومانسي وأكلاته البحرية اللذيذة وزبائنه الذين يشكِّل الأجانب غالبيتهم.
قالت وهي تتصفح قائمة الطعام بعد أن استقرا في أحد أركان المطعم.. بقرب نافذة مطلة على حديقة مليئة بشتى أصناف الزهور وشجيرات البرتقال والزيتون وأشجار الأرز العملاقة وقد أضفت الإضاءة على الحديقة جواً يبعث على الطمأنينة والحبور:
- لم أتصل بأمي منذ أسبوع.. أرجو أن تذكِّرني بالأمر عندما نعود للفندق.
إنها مشدودة إلى تلك الديار الموسومة بالجفاف والصهد كما وصفتها يوماً.. تحمل معها أمها أينما ذهبت.. هذا الانتماء الطاغي لغيره يزعجه.. كما يزعجها حديثه عن أهله.
لم يصرِّح لها يوماً بضيقه من اهتمامها بأهلها في أوقات يتمنى فيها أن تهتم به أكثر.. تأمل وجهها المشرق.. وجمالها الفريد.. ورقتها المتناهية.. انتبه إلى النادل وهو يقف بمحاذاته مستفسراً عن اختيارهما من الطعام.
حدّق في قائمة الطعام.. خيّل إليه أن الحروف قد تحولت إلى أرتال من النمل.. تتحرك إلى أطراف القائمة ثم تختفي حتى بدت القائمة خالية من الكتابة.
رماها مذعوراً وبحث عن النمل فلم يجده عندما التقطها مرة أخرى وجد الحروف في أماكنها..
داهمته الرغبة في الضحك فقاومها.. طلب من النادل التريث لدقائق أخرى قال:
- أمي.. أمي.. أهلي.. الهاتف (وبعدين)؟
ولما بدا عليها الاستياء سارع إلى القول:
طيب.. حاضر وممنون، عندما نعود إلى الفندق سأهاتفها بنفسي.
كانت لا تزال منشغلة بتفحص قائمة الطعام..
مرة أخرى أقبل النادل لتسجيل طلبهما..
أملت عليه اختيارها فقال الزوج:
- وأنا مثلها.. اجعل الطلب لاثنين.
ثم التفت إلى زوجته بعد انصراف النادل وقال:
- لماذا لا تتكلمين.. سيظن الناس أننا مجرد زوجين كيف لي أن أخبرهم أننا عاشقان.. رمت بهما دروب الحب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؟
ابتسمت.. شعر بالفرح يطغى على كل ما حوله..
وبدا سقف المطعم الخشبي بعيداً إلى الأعلى وقد تطاولت الجدران وتحول لونها إلىالأخضر وبدا العشب النابت بين شقوقها أكثر اخضراراً بينما تحولت أرض المطعم إلى اللون الوردي.
تذكَّر أنه قبل أيام قليلة أدخلها في نفق القلق غير المبرر.. استاء من تصرفاته التي طالما أزعجتها ومن كلامه الذي طالما آلمها.. تسلَّل الحزن إلى نفسه.. لزم الصمت إلى أن قالت مستغربة:
- هل فقدت لسانك.. لماذا لا تتكلم؟
وكأنما انتشلته من قاع الحزن قال:
- يبدو أنني أزعجك بكلامي.. كلما حاولت كسب رضاك.. يجانبني الصواب وأرتكب الحماقات من غير قصد.
وكأنما أرادت أن تهوِّن عليه فقالت تمازحه:
- ما أحلاك وأنت في هذه الحالة.. تخلع جلباب الغموض وتتخلَّى عن دور القسوة فتعود كما أنت.. طيِّباً ورقيقاً وواضحاً.
أمسك بيديها وقال:
- أرجوك لا تسيئي فهمي.. إنني أحاول إرضاءك لكنك حساسة أكثر من اللازم.
- وأنت متهور أكثر من اللازم.
حاول أن يستشف من نبرات صوتها ما إذا كانت تمازحه أم تذكِّره بأحد عيوبه لكن صوتها بدا محايداً فافترض حسن النيَّة..وهي القاعدة الذهبية التي يتعامل بها مع كل الناس إلى أن يثبت العكس.. وطالما طرحت آراء لا يتفقان حولها سواء أثناء نقاشهما المباشر أم من خلال زاويتها الأسبوعية التي تكتبها في مجلة المرأة لكنه يعتبر هذا الاختلاف في الرأي علامة صحة في العلاقة الزوجية خاصة أن هذا الاختلاف ينتهي بالإقناع لصالح أحد الطرفين.. دون حساسية أو شعور بالغبن.
سألها بعفوية:
- ماذا تقصدين بقولك إنني متهور أكثر من اللازم؟
- ألا تعرف ماذا أقصد؟ طبعاً أنت لست معي.. منذ جلسنا وهي تكاد تلتهمك بعيونها.. مؤكَّد أنك تعرفها.
وشعر كأنما صفعته بكلمتها، تطلع حيث أشارت برأسها.. هناك يجلس رجل وامرأة يتطلعان إليهما ويتحدثان بهمس..
- أتقصدين تلك المرأة إنها مع رجل ولا أظنها تنظر إلي، بل يخيّل لي أنها تنظر إليك أنت.
- لا تتغاب.. إنها تنظر إليك.. هل تخبرني ما صلتك بها؟
قل لي هل تعرفها؟
كان النادل قد بدأ في جلب الطعام ورغم رائحته النفاذة.. لم تمتد إليه يده.. لأن المفاجأة شلَّت تفكيره.
- هل تمزحين؟
وبان الغضب على محيَّاها:
- أنا لا أمزح.. وأنت دائماً تحرجني في مثل هذه المواقف.
أراد أن يمتص غضبها فقال ممازحاً:
- (ما دام معاي القمر.. ما لي ومال النجوم).
لم تصغ لما قال... بل زاد انفعالها وتفوَّهت بكلمات قاسية ثم انخرطت في بكاء صامت.. تطلع إلى مَن حوله فأدرك أن الجميع مشغولون بأنفسهم.. حاول أن يهدئ من انفعالها فلم يزدها ذلك إلا توتراً.. تعجب لتردي الموقف بهذه السرعة المذهلة.. وزاد عجبه عندما رأى المرأة تترك رفيقها وتتجه إلى حيث يجلسان وعلى شفتيها ابتسامة جادة.. وتوجس وقوع ما لا تحمد عقباه.. سارعت زوجته إلى مسح دموعها واستعادة هيئتها وكأنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.. وانهمرت الأسئلة في ذهنه:
ماذا تريد هذه المرأة؟ ماذا سيكون رد فعل زوجته لو دار بينه وبين هذه المرأة أي حديث؟ ما هذه الساعة المشؤومة التي قادته إلى هذا المطعم؟ كيف سيعالج الوضع إذا تطور الموقف وهما في مكان عام.
المرأة تقترب أكثر.. وقلبه يزداد اضطراباً وعقله يزداد تشتتاً وخيّل إليه أن أرض المطعم تدور به دون سواه.. اقتربت المرأة أكثر.. ازداد وجيب قلبه..
ولما أصبحت بقربهما.. مدت يدها.. ظنها ستصافحه وهذه بداية الكارثة. لكنها تجاوزته لتصافح زوجته وتشد على يدها بحرارة وهي تتساءل بفرح طفولي:
- أنت الكاتبة كوثر جابر؟
كان السؤال آخر ما يتوقّعه فزوجته الكاتبة المشهورة في بلدها.. لم يظن أن شهرتها قد وصلت إلى المغرب العربي..
أجابت زوجته وقد بدت سحب الغضب تنجلي من سماواتها:
- نعم أنا هي!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved