Thursday 9th December,200411760العددالخميس 27 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

فتح ورئاسة السلطة فتح ورئاسة السلطة
عبد الرحيم محمود جاموس /مدير عام مكاتب اللجنة الشعبية الفلسطينية

لقد غيَّب الموت الرئيس القائد ياسر عرفات، بعد رحلة طويلة مع النضال دامت أكثر من نصف قرن، كان له فيها صولات وجولات.. إخفاقات وإنجازات.. لقد تماهى فيها مع القضية والهوية الفلسطينية تماهياً يصعب الفصل بينهما، فوقف العالم بإجلال وإكبار أمام رحيله المفاجئ واستحق عن جدارة التقدير العالمي، كما حاز وبجدارة على الالتفاف الشعبي الفلسطيني حول قيادته على مدى عقود الكفاح الوطني المتواصل، والذي تمكَّن من خلاله أن يضع قضية فلسطين في مكانها اللائق عربياً ودولياً، وفي أعلى سلم أولويات الاهتمام العالمي، فلا يشك أحد في حجم وفاعلية المكانة التي احتلها الرئيس ياسر عرفات في تأسيس وقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وفي انبعاث الهوية الفلسطينية الوطنية المنافية للكيان الصهيوني.
إلا أن تجمُّل الشعب الفلسطيني وقيادته وقفزهما فوق الجراح والمعاناة والألم البالغ الذي أحدثه هذا الغياب والرحيل لقائد كفاحه الوطني ورمز نضاله، كان أيضا محل إجلال وإكبار من جميع المراقبين والمعنيين بالشأن الفلسطيني عربياً ودولياً، فقد تمكَّن الشعب الفلسطيني في هذه الأزمة المفصلية أن يؤكد على وحدته الوطنية ووحدة قواه الفاعلة والمؤثرة في مصير الشعب والقضية من خلال تمسك الجميع بالشرعية الدستورية والمؤسساتية الوطنية، وأظهرت جميع القوى والقيادات على اختلاف مستوياتها درجة عالية من الاستشعار بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها بسبب هذا الغياب المفاجئ للرئيس المؤسس والقائد الرمز الذي يعز تكراره.
فتمَّ الانتقال السلس والهادئ للسلطة ولكافة المسؤوليات التي كان يتحمَّلها الرئيس الراحل وبدرجة عالية من الالتزام بالشرعية التاريخية والمؤسساتية الدستورية والتي أرسى قواعدها عبر عقود من النضال الطويل، فرحم الله أبا عمار، وطابت نفسه، واستراحت روحه إن شاء الله في عليين وجزاه الله عن شعبه وأمته خير الجزاء، وهكذا رشحت حركة فتح رفيق دربه محمود عباس خلفاً له في رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وحاز على ثقة جميع أعضائها بعد ساعات من إعلان الوفاة، كما اختارت اللجنة المركزية وبكامل أعضائها رفيق دربه فاروق القدومي خلفاً له لرئاستها، وانتقلت رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً وحسب نظامها الأساسي إلى روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الذي بدوره حدد وأعلن عن يوم التاسع من يناير 2005م موعداً لإجراء الانتخابات الرئاسية طبقاً للنظام الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية.
فكان لهذا الانتقال الهادئ والسلس للمسؤوليات وللسلطات والالتزام بالشرعية التاريخية والدستورية أثره البالغ في عزاء الشعب الفلسطيني بقائده، فقدَّمت القيادة والمؤسسة الفلسطينية نموذجاً حضارياً بات محل تقدير كل الشعوب والقيادات في العالم.
فسيقوم الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة الوطنية يوم 9-1-2005م بممارسة حقه الانتخابي في اختيار رئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية من بين المرشحين لهذا الموقع، وستكون هذه الممارسة الانتخابية بمثابة التأكيد الواعي من الشعب الفلسطيني ومن قياداته وقواه السياسية على الالتزام بالمنهج الديمقراطي في اختيار حكامه وتسيير شؤون مؤسساته على المستوى المحلي والوطني، وإرساء أسس ومؤسسات الدولة الفلسطينية.
وبناءً على ذلك فقد أعلنت حركة فتح كبرى الفصائل الفلسطينية والتي مثَّلت بحق وحقيقة العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية على مدى أربعة عقود من النضال مرشحها الوحيد محمود عباس (أبو مازن) لخوض انتخابات الرئاسة يوم 9-1-2005م باسمها وملتزماً بتطبيق برنامجها السياسي في مواجهة مرشحي القوى والشخصيات الفلسطينية الأخرى المنافسة.
فمن هو محمود عباس (أبو مازن)؟ ولماذا وقع الاختيار الفتحاوي عليه وليس على غيره؟ ولماذا تقتضي المصلحة الفلسطينية الاقتراع بنعم لصالح مرشح فتح؟
تلك أسئلة نسعى أن نقدم إجابة ولو مختصرة لها، ليس بغرض التعريف ب(محمود عباس) (فالمعروف لا يعرَّف) ولا بغرض الترويج لشخصه الكريم دون غيره، لأن مصلحة الوطن والقضية لا بد وأن تكون فوق الأشخاص وفوق الفصائل والأحزاب فالجميع في خدمة الوطن والقضية، خصوصاً وأن الشعب الفلسطيني على درجة عالية من الثقافة والتعليم والذكاء والحساسية فهو الرقيب المباشر على قياداته ومؤسساته بعد الله، وسوف يتمكن بغالبيته من اختيار الشخص المناسب لتحمُّل المسؤولية في هذا الموقع الهام والحساس بعد غياب الرئيس المؤسس.
فهذا السياسي الفلسطيني المخضرم (محمود عباس) ولد في مدينة صفد في الجليل الأعلى من فلسطين التاريخية أثناء ثورة عز الدين القسام سنة 1935م، وقبل أن يتمَّ تعليمه المدرسي اكتوى بنار النكبة سنة 1948م ليصبح لاجئاً فلسطينياً مع أُسرته في دمشق فعانى ما عاناه اللاجئون الفلسطينيون من نار البعد عن الوطن السليب وشظف العيش، وشأنه شأن غالبية الكثيرين من أبناء جيله، أدرك أن التعليم أمضى سلاح يجب أن يتزوَّد به الفلسطينيون لتغيير واقعهم البائس على المستوى الخاص والعام، فرغم كل الظروف المادية الصعبة التي كانت تحيط به عمل على إكمال تعليمه المدرسي والجامعي حيث حصل على درجة الإجازة في الحقوق من جامعة دمشق سنة 1957م، وقد قال فيه أستاذه الدكتور مصطفى البارودي إنه من أذكى الطلاب الذين تتلمذوا عليه في مادة القانون الدستوري والنظم السياسية، وفي تلك السنة توجه للعمل في إدارة التعليم في دولة قطر، ومن هناك بدأ يتلمس طريق النضال للعودة ثانية إلى فلسطين، وكان فيها لقاؤه مع مجموعة من الشباب الفلسطيني الطلائعي الذي اكتوى مثله بنار النكبة والغربة والتشرد والشتات نذكر بعضاً منهم لا حصراً محمد يوسف النجار (أبو يوسف) وعبد الفتاح عيسى حمود وكمال عدوان وفتحي بلعاوي - رحمهم الله - ورفيق النتشه (أبو شاكر) وفواز ياسين (أبو مروان) وصبحي عبد القادر وأبو طارق الشرفا وغيرهم ممن شكَّلوا فيما بينهم بؤرة وخلية تأسيسية من خلايا فتح آنذاك كان لها دور طلائعي في تأسيس حركة فتح ومدها بالأطر والقيادات وتوفير الدعم المادي والمعنوي لتعزيز مسيرتها، شأنها في ذلك شن البؤر والخلايا الحركية الفتحاوية التأسيسية التي كانت بمثيلاتها في تلك المرحلة في عدد من الدول العربية ونخص بالذكر منها بؤرة الكويت التي كان على رأسها الرئيس المؤسس ياسر عرفات وبجانبه خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وخالد الحسن (أبو السعيد) رحمهم الله وفاروق قدومي (أبو اللطف) وعادل عبد الكريم وعبد الله الدنان وتوفيق شديد وسليم الزعنون (أبو الديب) وآخرون غيرهم وفي بؤرة الأردن نذكر محمد غنيم (أبو ماهر) وسميح كويك (قدري) وآخرين، وفي السعودية وليد نمر (أبو علي إياد) وعبد اللطيف عثمان وماجد أبو شرار وصبحي أبو كرش (أبو المنذر) وسعيد المزين (أبو هشام) - رحمهم الله - والحاج مطلق وأحمد قريع وعبد العزيز السيد وحكم بلعاوي ويونس فريجات (أبو ناصر) وياسين جابر (أبو الوليد) وحسين الشرقاوي (أبو الفهد) وآخرون كثر، وفي لبنان جلال كعوش وزياد الأطرش - رحمهما الله - وزكريا عبد الرحيم (أبو يحيا) والقائمة تطول، فكان تلاقي هذه البؤر والخلايا الثورية وتقاطعها في الفكر وفي الهمِّ العام والهدف المتمثِّل في التحرير والعودة وفي صدق نواياها في التمرد على الواقع الفلسطيني البائس والمشتت والذي كان يرزح تحت وطأته كل ذلك مثَّل القاسم المشترك الأعظم بين هؤلاء الشباب الطلائعيين بضرورة التوحد في إطار سياسي نضالي واحد يجمع ويوحِّد طاقات الشعب الفلسطيني ويقوده نحو الثورة والتحرير والعودة، فكانت هذه البؤر التي أشرنا اليها بمثابة النواة المؤسسة للبناء التنظيمي والثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، والتي أخذت على عاتقها بعث الهوية الفلسطينية بشكل واضح وجلي ودون لبس أو تزوير في مختلف أماكن التواجد الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، ووضعت هذه الطليعة النضالية أسس العلاقة التكاملية بين الهوية الفلسطينية وأبعادها العربية والإسلامية والدولية، وحددت هدفها باستعادة الهوية وتحقيق العودة والحرية والاستقلال الفلسطيني، وقد تميَّزت هذه الطليعة النضالية عن غيرها من القوى والنخب السياسية الفلسطينية الناشطة في تلك المرحلة بداية ستينيات القرن الماضي، والتي عجزت عن تقديم برنامج محدد وواضح لمفهوم ولماهية الهوية الفلسطينية حيث كانت جهودها وأفكارها مشتتة بين أبعاد الانتماء القومي أو الإسلامي أو الأممي، مما أدى إلى أن تصبح الهوية والقضية الفلسطينية في برامجها مجرد حالة انتظارية وجزئية هامشية وإن ادعت أنها قضيتها المركزية أمام سلم طويل من الأولويات والهموم المتداخلة في برامجها عربية أو إسلامية أو أممية واسعة.
فكان لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وقيادتها الطليعية المؤسسة، السبق في إيقاظ الهوية الفلسطينية ونفض غبار النكبة والتشرد والتشتت عنها وبعثها من تخبطها ورقادها السياسي، ووضعها في مكانها اللائق والصحيح عربياً وإسلامياً وإنسانياً، وتقديم النقيض المباشر للكيان الصهيوني الذي يغتصب فلسطين ويشرد أهلها والذي يسعى جاهداً مع حلفائه الإقليميين والدوليين إلى طمس وتغييب الهوية الفلسطينية ليوطد كيانه الغاشم على كل ثرى فلسطين، ولهذا السبب الرئيس حظيت حركة فتح بما لم تحظ به أية حركة أو منظمة من التأييد والالتفاف الشعبي الفلسطيني والعربي حول مبادئها وأهدافها وقياداتها وبرامجها ووسائلها الكفاحية، واصبحت بالفعل المظلة والهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة والموحدة لقوى الشعب الفلسطيني على امتداد تواجده في الوطن وفي الشتات، وأصبحت حركة متجددة ومتواصلة جيلاً بعد جيل باتجاه تحقيق الهدف الأساسي الذي رسمه المؤسسون الأوائل وتزداد قوة وصلابة يوماً بعد يوم بسبب تعبيرها المباشر عن أماني وتطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة والاستقلال وبناء الهوية والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وتمسكها بثوابت الشعب الفلسطيني زادها دائماً عمقاً وجماهيرية، فهي حركة رائدة وقائدة للمشروع الوطني الفلسطيني، ومن هذا المنطلق حرصت حركة فتح باستمرار على استقلالها واستقلال القرار الوطني الفلسطيني، وحرصت على القيام باستمرار في دورها الطليعي في قيادة وبناء المشروع الوطني الذي سيعيد للشعب الفلسطيني هويته وحقوقه الوطنية وسوف تستمر بالقيام بهذه المهمة في هذه المرحلة التاريخية الصعبة وفي كل مستويات العمل والأداء والمسؤولية الواجبة فهي تنتدب دائماً خيرة مناضليها وكفاءاتها وقياداتها لأداء المهام المطلوبة ولإدارة المؤسسات الفلسطينية التي هي نواة الكيان والدولة المستقلة، ومن هذا المنطلق جاء ترشيح حركة فتح للسيد محمود عباس عضو لجنتها المركزية وأحد قياداتها التاريخية المؤسسة والكفؤة لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية لأنها تجد فيه المخلص والقوي الأمين القادر على إدارة دفة المسؤولية في هذا الموقع وفي هذه المرحلة والمحطة من مراحل إنجاز بناء الهوية والدولة ومواصلة مسيرة الكفاح الطويل من أجل إنجاز حقوق الشعب الفلسطيني في العودة والحرية والاستقلال، فالسيد محمود عباس قد تميَّز وفي وقت مبكر بين رفاقه في اللجنة المركزية لحركة فتح بأن نحا منحى فكرياً متميزاً بين رفاقه انكب من خلاله على دراسة الحركة الصهيونية من حيث أساليبها وآليات عملها ومن ثم دراسة الكيان الصهيوني وتركيبته البنيوية الخاصة ووظيفته في السياسة الاستعمارية التي تعرَّضت وتتعرَّض لها منطقتنا العربية، وكان قد توصل إلى نتيجة أن الكفاح المسلح وحدة لا يكفي أن يكون أسلوباً وحيداً لتحقيق الأهداف الفلسطينية خصوصاً بعد الأحداث المؤسفة التي كان قد شهدها الأردن وحركة المقاومة في أيلول 1970م، بل لا بد من إبداع سبل وأساليب أخرى تكون معززة للكفاح المسلح، منها العصيان المدني، والسعي لإحداث اختراقات سياسية للكيان الصهيوني، وتشجيع تيار الهجرة المعاكسة لليهود من فلسطين إلى أوطانهم الأصلية ومواجهة الآلة الإعلامية والتعبوية والاقتصادية الصهيونية... إلخ.
ومع هذا المنحى الفكري والاهتمام التركيبي والبنيوي للحركة الصهيونية وكيانها الغاصب لدى محمود عباس بدأت تظهر ملامح منهجية يمكن أن يُطلق عليها البرغماتية الثورية أو الواقعية السياسية وأخذ هذا المنهج بالتشكُّل التدريجي داخل صفوف حركة المقاومة وبرعاية من القيادة الفلسطينية، فهذا الاتجاه أصبح قادراً على كشف ألاعيب وسياسات الكيان الإسرائيلي، وقادراً
على مواجهته على مستوى الثقافة والفكر وكشف زيف ادعاءاته ومحاورته وضحد حججه الواهية.
لذلك كله رأت حركة فتح بجميع مستوياتها القيادية أن يكون محمود عباس مرشحها لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية لقدرته على القيام بأعباء مهمة الرئاسة في هذه المرحلة خير قيام، فليصوِّت الشعب الفلسطيني بنعم لمرشح فتح في رئاسة السلطة الفلسطينية، وستكون حركة فتح بكل ثقلها السياسي والمعنوي والجماهيري إلى جانب مرشحها لكسب الانتخابات وإلى جانبه من بعد في تأدية أعباء هذه المهمة بما يخدم مصالح الشعب الفلسطيني وتحقيق أهدافه الوطنية الثابتة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved