لا أتخيَّل أنَّ الوطن هو فقط كلُّ معاملة تتناقلها أيدي المسؤولين للتَّوجيه ببناء، أو إضافة، أو تغيير، وليس هو فقط ما يتداوله العاملون في مكاتبهم من قضايا تعليم، واقتصاد، وهندسة، وبحث، وتقانة، وصناعة، وتجارة، وسياحة، ليس الوطن تربة ينشأ عليها كل بناء، ويخطَّط فيها كلُّ درب، وتحفر فيها الآبار، وتتمدَّد الشَّبكات المختلفة، ليس الوطن ورقة عمل، أو محور لقاء، أو مناط تجربة...
الوطن، هذه النَّبضة التي تخفق في الصَّدر لحظة الفرح، والفخر، ولحظة الألم، والحسرة، لحظة الإحساس بثمرة أينعت، أو حلم ذاب، لحظة التَّمني للعلو، والتأسِّي على سقوط...
الوطن، حركة لا إرادية لإنسان يجد في طريقه عثرة ليردمها، أو جريحاً لينقذه، أو ظالماً ليوقفه، أو محتاجاً ليسدِّده، أو ضالاً ليوجِّهه، أو مجترئاً ليوقفه، أو... أو...
الوطن، مثل اليوم، وأمس، وغداً...
يتجمهر النَّاس حول بقعة منه تثلم لا ليشاهدوا، بل ليشاركوا في رأب صدعها...
يتحلَّق النَّاس لا ليفرحوا من أجل اعتداء، بل ليحزنوا على انتهاك، الوطن, هو هذه الأجساد التي زجَّت أمس نفسها كي تنقذ الجرحى، تجري وأطراف ثيابها في أفواهها إمعاناً في الامتثال لواجب الإنقاذ...
الوطن، هو هذا الخبر الذي سقط في أذني لحظة حدوثه: هناك اعتداء، فادعوا... ادعوا لأنَّ الوطن هو هذه اللَّهجة الرَّاجية للإله الحافظ أن ينزل ستر حفظه على هذا الوطن، وأن يكنفه في كنفه، ويحيطه برعايته وعنايته، ويهدي نفوس ضالين فيه، لا يحسبون للوطن حرمة، ولا للحقِّ حدوداً...
الوطن، هذه الأصوات الحانقة التي تجعل الله حسيباً على كلِّ فعل خاطئ في حقِّه...
الوطن، هذا الإحساس الجمعي، الذي يوثِّق الاعتداد به، والتَّمسُّك بقضاياه،
الوطن، هذه الالتفاتة نحو الكلِّ، كالجسد الواحد الذي لا يتجزَّأ حتى إذا سقط عضو فيه جريحاً تداعت له بقية الأعضاء...
الوطن، دعوة... وحب، وتكاتف، وتآزر...
وهو حركة دائبة في الصَّدر، والعقل، كما في المكتب والبيت، كما عند الطَّعام، والشَّراب، كما هي عند آخر دعوة والعين تسلم جفونها للنَّوم...
اللَّهم، كن لهذا الوطن الحفيظ.
|