لعلّ الفَتى - والفتاة داخلة في الخطاب - الذي يُشرَب حُبَّ اكتساب العلم الذي يرتقي بمداركه، ويسمو بسلوكياته وتعامله، يكون من أشدّ الناس رهافةَ حِسّ، وثباتًا على المبادئ القويمة، وقوّةً على احتمال المصائب، ومُكابدة الشدائد، لأنه عَشِق شيئاً رائعاً لا يفنى، لا سيما أنه رفيق الإنسان الشفيع له في حياته ومماته بعد انقطاع حركة النفس، وسكون مهجتها عن تعويض نقص، أو تقويم خلل، أو توبةٍ عن تقصير وإثم.
إن تلك الشفافية الغالبة عليه لا تزيده، ولا تُؤكّد عليه، إلا أن يكون جادًّا حازماً في عَيشه لهذه الحياة الواحدة، التي لا تتكرر بصورتها الدنيوية أبداً، والجِد في العيش ليس سبباً من أسباب النّصَب والتعقيد والشقاء الذي يستيقن به الإنسان في أعماقه، وإنما هو وقود خاص جداً لذلك الإبداع الذي يُوهَبهُ من رب العرش العظيم، وتتوزّع فنونه في كيانه كاملاً، بل وتفيض على كل ما تقع عليه عيناه، أو يتصل به خياله وتفكيره وتأمّله.
هذا الإبداع الخاص بطلبة العلم لا يقتصر على علم دون آخر، أي لا يختص به متعلِّم الأدب عن متعلِّم الكيمياء في الإطار الشرعي القويم، لأن العلوم كلّها تكشف لنا بديع صُنع المولى القدير الذي يزيد النفس بهجة وإحساساً بالخصوصية في تلقُّف مواهب الإبداع الكوني.
وإذا كان طالب العلمِ هذا فاقداً لأهم رُكنَي الحياة الأُسرية لأي إنسان (الأب والأم)، فإن تحقيق ذلك الاكتشاف والوصول إلى جنائنه يصبح تحدياً أكبر، تحدياً يؤلم الأيتام من الداخل، يُبكيهم، يُحرق سعة الفراغ في صدورهم، فلا تمتلئ إلا بالحمد وتعميق اليقين بالقضاء والقدر الذي لا يخرج عنه طلب العلم، ولا اكتشاف إبداعه، ولا الإبداع في ذلك الاكتشاف.
إن اليتيم - طالب العلم الجاد يكاد يكون جنساً خاصاً من البشر، لا سيما إن فَهِم قَدَر اليُتم على أنه سفينة نوح التي تصعد به فوق خطر الأمواج التي أفرزتها الوحدة، بغياب ذلك الغالي الحبيب (الأب أو الأم)، بغياب ذلك الذي خرج من صُلبه، أو تكوّن في رحمها، وعاش لهما ظِلاًّ في الطفولة، ومُظِلاًّ في الشباب والكِبَر. وإن تحقق له ذلك الفَهم الرائع المتميّز.. كان حَقِيقاً أن يعِيَه طلبة العلم من المبتدئين الذين لا يفتئون يصرفون أوقاتهم في تسقُّط أسباب العجز، والكسل، وانعدام الإبداع، كي يرتاحوا وتسكن حركة قلوبهم ومُهجِهم قبل دخولها لقبورها، ظنًّا أن هذه هي الراحة المُثلى من نَصَبِ شيء لا يُسْمِن أرواحهم إلا بالانشغال عن مُتَع الحياة !
إنْ حاولْتَ أن تُطوِّر مفهوم طلب العلم لديهم، وتُرقِّيَ وسائل طلب العلم العملي الشرعي القويم، فتستشهد لهم بنماذج فريدة من طلبةِ العلم الأيتام الذين عاشوا حياتَهم رحلةً غير منقطعة أبداً في طلب العلم، أمثال : الشافعي، والبخاري، والأوزاعي، وابن الجوزي - رحمهم الله تعالى ورحمنا معهم -.. وجدتهم يتعذّرون - هرباً - بصعوبة الاقتداء بهم، لأن زمنهم ليس زمننا.
إنِ اجتهدتَ وجَهِدتَ في تحصيل نموذجٍ مُعاصرٍ لهم وقريب منهم تُوصله إليهم بصورة جيدة تُنمِّي فيهم الهمّة، والسموّ في توظيف العلم بعد اكتسابه - وهذا هو الخطر إن عُدِم -.. تجدهم يتحركون، يشرعون يتحركون في طلب العلم طلباً صحيحاً، ولو كان في سنين الدراسة الإجبارية الأولى. وهنا.. نموذج كان مخبوءاً في صدر أحد الكتب البلاغية الجادة التي لا يجرؤ على الاقتراب منها - فيما أظن - إلا أهل التخصص أو الطلبة الواثقون، وما كان يضرب بهذا العمق لدى كاتبة الكلمات - وهي شريكة الأربعة السابقين في اليُتم - وما كان يتجلّى نصًّا أدبياً أفرزته تجربة طالب علمٍ ما زال في محطات رحلته المتصلة بين ظهرانَينا.. لولا تلك الدعوة العميقة التي أطلقها كبير روّاد التنظير لمنهج الأدب الإسلامي فضيلة الشيخ : أبي الحسن الندوي - رحمه الله تعالى - للبحث عن نصوص أدبية مختبئة في كتب صنفناها على أنها ليست أدبية جُملة وتفصيلاً.
إن هذه الدعوة تُعطينا وسيلة من وسائل التجديد في النصوص الأدبية العربية الإسلامية، وفي النظرة لتاريخ هذه النصوص، وفي تقويم وتطوير المناهج النقدية لها، ليكون لدينا الجديد الأصيل المعاصر. وهذا النص هو مختصر رحلة أبي علي، د.محمد بن علي الصامل - رعاه الله - في صدر كتابه المدخل إلى دراسة بلاغة أهل السنّة، ولا أكاد أنسى أنني مذ تصفّحت الكتاب قبل عام لم أَحْرَكْ فيه لغير هذه الصفحة التي هي أوّل شيء مدوَّنٍ بعد العنوان ومعلومات الفهرسة والطّبع، فتحتَ عنوان ذكر ودُعاء، وشكر وإهداء (ص4) كتب هذه البرقيات عن رحلته :
(إلى أبي علي بن محمد بن صامل بن ملاقي الجهني : كنتَ أباً شفيقاً، ومربياً حازماً، علّمتَنا حب الناس واحترامهم، صارعتَ ظلام الأمية، لتنقلنا إلى نور العلم، تركتَ هذه الدنيا الفانية وسُمعتُك حسنة، وذكراك عطرة، تُشيّعكَ أدعية المُحبّين.
أمطر الله شآبيبَ الرحمة عليك وعلى والديك، وغفر الله لك، وأعلى درجاتك، ونفعك بدعائنا لك.
إلى عمي محمد بن محمد بن صامل بن ملاقي الجهني : كنتَ لي أباً وأخاً وصديقاً، شملتني بعطفك، وأكرمتني بنصحك، وأسديتَ لي معروفاً لا أنساه ما حيِيت، تعلّمتُ منك مكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الناس، تركتَ فراغاً بيِّناً في نفوس محبِّيك، عوّضك الله في خلَفِك خيراً، وأصلح ذريّتك، ونفعك بدعائهم، وأغدق الله عليك رحمته، وغفر لك ولوالديك.
إلى أمي يا صاحبة القلب الكبير : تعبتِ وعانيتِ، وشاطرتِ والدي شظف العيش، وكبد الحياة، فكنتِ له خير معين، حرصتِ على غرس حب الخير وصلة الرحم في نفوس أبنائك، ووجهتِ فأحسنتِ التوجيه، ودعوتِ فأخلصتِ الدعاء، وإني لأرى أثر دعائك لي ولإخوتي عياناً في كل أمر من أمور الحياة.
متّعكِ الله بموفور الصحة وهناء العافية، وأطال في عمركِ على طاعة الله، وأراكِ من بنيكِ ما يسرّك، ورزقكِ برَّهم ونفعهم.
إلى أم علي وأبنائي وبناتي : أعنتموني بصبركم، وساعدتموني بدعائكم، ويسّرتم لي من الأوقات ما هيّأ لي إنجاز كثير من أعمالي. جعلكم الله عوناً لي على طاعته، والله يحفظكم ويرعاكم.
إلى أحبتي : أقاربي جميعاً، وزملائي وأصدقائي، ومشايخي وتلاميذي.
أهدي لكم أعبق التحيات وخالص الدعوات.
محبّكم جميعاً - أبو علي
كلمات تفيض بتراسل الأزمنة، والأشخاص، والمواقف، والتحديات.. وقبل أي تعليق، نقول: (آمين) لكل دعوة انطلقت من صفاء قلب الطفل الذي يتذكّر كدح الأب الأمِّي والأمّ المخلصة، وصمود ورقّة الشيخ الخمسيني الذي يرصد العالم هذا (عالمَ رحلة الأيتام في طلب العلم) من منظار الحكيم، المنيب، الذي طَعِمَ اليُتم هنا، والعِوَض المؤقّت هناك، والكدح العصيب مدًى، والتفكير الذي تفيض أبحره على الآخرين في قارّات العالم، لتحملهم معها في سفينة نوح، والعطف والوصل الذي ينطلق من الأب - رحمه الله - إلى آخر التلاميذ انضماماً تحتَ جِنحِه.
كتابة تفيض برفاهية تلذُّذ فهم حكمة القضاء والقدر والرضا بها، بل والإبداع في الامتثال لإرادة الرحمن الرحيم الذي وضع الآباء، والأعمام، والزوجة، والأبناء، والزملاء، والتلاميذ علاماتٍ لمنعطفات رحلة علمية لها تميّزها، ليس في إنتاج أبي علي الصامل نفسه فقط، وإنما في إنتاج مَن درجوا بين يديه، وساروا على هدى إرشاداته، وتفهّموا حقيقةَ حزمِهِ وتدقيقهِ وجدّيّته التي لا تفتر، لأن حياة طالب العلم (اليتيم خاصة) إبداع، والإبداع لا يأتي إلا بمعاناة الجد والثبات عليه.
إشراقة أخرى، تلك المكاشفة السعيدة بأخطار تلك الرحلة، وما هزّ جنباتها، وأفرغ من العين بعض أحبابها، وإن كان قد زرعهم أحباباً للأبد مُقيمين في القلب والذاكرة ومرابع الدعاء. لم يحذف يُتماً، أو يستر (ظلام الأمّية)، أو ينسَ تضحية (صاحبة القلب الكبير) - حفظها الله -، أو يُخبِّئ دعمَ (رفيقةِ الدرب)، أو يبخس الأبناء والأصدقاء والتلاميذ حقاً ولو صغيراً، فهم جزء أصيل من زمنه، وتحدياته، وإنجازاته.
لقد برق تقدير التضحيات التي تدل على تكافل محيط طلبة العلم معهم في رحلتهم، فالكل شريان واحد، ينبض بشيء واحد، ونجم الأمل الأكبر الذي يحيط بهم ويُرشد قافلتهم هو الحب، حب طلب العلم والسعي فيه والنفع به، فهو ما لا يستغني فيه الإنسان عن المعين، وكيف بالمعين عزة وإجلالاً وروعة إذا كان من أبٍ رحيمٍ حمل ابنه طالب العلم على كتفيهِ بعيداً عن رمضاء الحرمان من العلم، ومن أمٍّ رحيمة فاضت بحنانها لتكون الغيمة التي تُظلّهما معاً، فيتحول الفقر والجَهَد إلى أجمل طعامٍ يغتذيه الفتى الصغير دعامة لجدّه وجهاده المستقبلي.
إنها عين طالب العلم اليتيم التي تفيض بالحب والرضا والحميمية على كل شيء، فما أُخذ منه ليس قليلاً، وليس أهون ما يملك، بل أغلاه وأحبّه، وكلما كثُرت المأخوذات من الإنسان، ابتلاء له وتمحيصاً، قلّت زحمة الصوارف عن الحياة الحية الفاعلة، ولهذا كان العِوَض من جنس المأخوذ ما دام الإخلاص ماضياً في رحلة هذا الطالب، يُذكّر به مَن ينسى، ويُنسي به مَن يحزن ويأسى على ما فقد، فالحياة أخذ وعطاء، والعطاء الخفي الذي يفيض من الروح على الكون، وليس من الكون على الروح هو أجلّ العطايا التي لا بد أن يكون ثمنها المأخوذ جليلاً جداً في فقده وفي التضرّع بالأجر في الصبر عليه، والخلَف الخير...
معيدة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
|