لا شك -وإن ادَّعينا غير ذلك أو عكسه- أن الكثير منا معشر الكتَّاب -ولا أجرؤ أن أبرِّئ نفسي بأي حال من الأحوال- (نعيش في أبراج عاجية) أو إسمنتية أو ربما خشبية أو سواها من المواد العازلة المكونة لتلك الأبراج أو على الأقل ذات التوصيل غير الجيد إن لم يكن الرديء بالمجتمع وبالقضايا الاجتماعية التفصيلية، وخاصة تلك المسكوت عنها وغير السافر منها. بل ويكفي كوننا نعيش في أبراج أياً كانت مكوناتها لنكون في منأى مقصًى أو يقصي نفسه عن خضم الحياة العامة وعن مجرياتها وجريانها الراكض أو الراكد في الشارع العام وفي الشوارع الخلفية للمدن والأطراف البعيدة، سواء كانت بادية أو ريفاً، مع ملاحظة المعنى المجازي لاستخدام كلمتي (بادية وريف)؛ لأن أياً منهما لم يعد يوجد، وخاصة في منطقة الخليج، إلا بالمعنى الجغرافي والاجتماعي وليس بالمعنى الاقتصادي أو الإنتاجي للكلمة إلا في أضيق الحدود.
فمَن غير القلة ممن رحم ربي من (عمداء) الأعمدة والزوايا أو (صعاليكها) على حدٍّ سواء في الصحف والمجلات من المحترفين أو الهواة يستطيع أن يدَّعي شرف أو تهمة النزول إلى قاع المدينة والاقتراب من حوض القرى لالتقاط آلامها أو آمالها والتعبير عن ناسها وما يشغلهم من الشجون والشؤون بموضوعية أو تعاطف بصخب أو هدوء؟!
فأكثر الكتَّاب منا يعتبر أن هذه هي وظيفة (الريبورتاجات) والتحقيقات الصحفية لتتولى ملاحقة إيقاع الشارع ومتابعة الأنين المكتوم والشكاوى وسواها الصادرة من المؤسسات والأجهزة الحكومية وغير الحكومية. أما وظيفة الكاتب فهي كما يبدو من كثير من الكتابات وظيفة (تنظيرية) كما أفعل الآن.
غير أن هذا الموقف النائي بنفسه -إن لم نقل المتعالي على واقع الحال بأسوده وأبيضه من قِبَل الكثير من الكتَّاب- لا يمكن أن يكون مقبولاً في الوقت الذي لا تزال الصحافة عندنا -رغم التحسن النسبي في الأداء- صحافة مكاتب غير قادرة بما يكفي من الصحفيين على تغطية الرقعة الاجتماعية الواسعة من القضايا والإشكاليات. كما أنني لا أعرف كيف يمكن أن يكون للنقد الاجتماعي (النظري) أو (التنظيري) أية مصداقية إذا لم يكن صادراً من التماس بالواقع والتفاعل معه ومعايشة معاناته أو على الأقل الوقوف عليها ومعرفتها من أفواه أصحابها.
ويبدو أنه لمواقف مماثلة لمثل هذه المواقف التي يكون على الإنسان فيها أن يتحمل مسؤولية الموقف أو الكلمة التي يتصدى لها باعتباره مسؤولاً عن الموقع الذي انتدب نفسه له كالكاتب، أو الذي انتدبته له الوظيفة كالمسؤولين الكبار أو الصغار، جاء قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (كن في الناس ولا تكن معهم). فأن نكون في الناس نتعايش مع واقعهم ونحس به، وألا نكون معهم فأن نمتلك النظرة الموضوعية والموقف النزيه لتقديم رأي نقدي خالٍ قدر المستطاع من الهوى أو من الانفعال.
وفي هذا لنا أن نقرأ أيضاً رأي كاتب ينتمي إلى واقع آخر في شأن المسافة الرابطة أو الفاصلة بين الكاتب وبين محيطه الاجتماعي والعالمي، وهو رأي الكاتب النمساوي بيتر هاندكه الذي كان أحد عناوين كتبه (أقيم في برج عاجي). ورغم تحفُّظنا على موقفه حينها من الحرب الصربية، ورغم أن رأيه الوارد هنا يتمحور حول كتابة الأدب وليس الكتابة على إطلاقها، فقد وجدتُ فيه تعبيراً دقيقاً عما تفتقده الكثير من الكتابة الاجتماعية التي يفترض أنها تنصب أكثر من غيرها على الاقتراب من الواقع والنهل من زلاله وكدره لتستحق الانتماء إلى ذلك الفضاء الاجتماعي بأوجاعه وجماليته. يقول هاندكه: (إن الرغبة وحدها لا تكفي لكي نكتب، يجب أن يضاف إليها الأسى. فشعورنا المأساوي بمشكلات العالم) في رأيه عامل مهم في الكتابة. ويكمل بالقول: (إذا تضافرت طاقة الأسى مع رغبة الكتابة آنذاك تولد الشرارة... أشعر دائماً عندما أكتب بأنني في رحلة استكشافية، وأحاول أثناء مسيري الانشغال بالصور التي أراها والتي لمستني بعمق)، فتلك الصور محرض لجوج يحثني على الكتابة، (إننا ملتزمون مثلاً بالتعبير عن مشهد طفل يركض على الطريق (هارباً من قناص، مثلاً)، أو امرأة عجوز تخرج من بيتها تحت المطر للقيام بمشترياتها، نراقب تلك العجوز ونفكر في أنها ربما تخرج من بيتها للمرة الأخيرة في حياتها، فنشغف بها وبفكرتها، وهذا الشغف هو ما يدفعنا إلى المشي (والتشمير عن ساعد الكتابة). ونحن ملتزمون هذه الطريق، وملتزمون صورها التي تلامس روحنا وتؤثر فينا وتوقظنا وتقيدنا وتهزنا، إنها قناعات تدفعني للمشي والمضي على طريق الكتابة، (أعني أنني أفكر كقارئ عندما أكتب، أنا أتأثر بكل ما يحصل في هذا العالم الذي يحوطني، حال العالم شأن يهمني، خصوصاً اليوم مع كل الأوجاع الموجودة).
وقد أحسستُ كم نحن جيل محظوظ من الكتَّاب والقراء اليوم في قوله: (أحياناً قليلة أفرح عندما يراسلني البعض حول كتبي وأتحمس.. ولكن نادراً ما أستطيع فعل ذلك، خصوصاً أنني لا أستخدم الإيميل، وهو على ما يبدو أفعل طريقة للتواصل في عصرنا).
والحقيقة أن لا عذر لكثير من الكتَّاب، و(منهم ذاتي الكاتبة)، في بُعدهم عن قضايا مجتمعاتهم أو الامتناع عن التعبير عنها. فالكاتب بإمكانه اليوم أن يمسك بشعرة معاوية التي تربطه بالناس وتشده إلى قضاياهم الاجتماعية بكلتا يديه لو شاء؛ إذ يكفي أن يضع الكاتب/ الكاتبة عنوانه الإلكتروني في كعب المقال لتصله في دقائق عشرات الرسائل من مختلف الفئات الاجتماعية وبمختلف طبقات الصوت من الهمس إلى الصراخ أو البكاء، فيطَّلع الكتَّاب عن قُرْب ودون مشقة تذكر على العديد من القضايا، ويختبرون الواقع عن طريق إعادة معايشته من خلال ما يصلهم من تجارب ومواقف القراء. هذا مع ملاحظة مهمة هنا ولا بدَّ من لفت النظر إليها وهي إغفالي المتعمد أو (تملقاً) للرقيب من ذكر تلك العوائق (الرقابية) التي قد يعاني منها الكاتب في إيصال صوت الناس وفي المجاهرة والمصارحة ببعض الإشكاليات أو المواقف المعبرة عنها.
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإنني أختم مقالي اليوم برسالة تتفطر بمعاناة بعض الشباب التي لا أحتاج إلى التعليق عليها؛ لأنها تملك من بلاغة الأمل الممزوج بالألم والقلق المقاوم لليأس ما يفوق الكلام. فهذه الرسالة المهمة في السؤال الذي يطرح بإلحاح وصلتني عبر البريد الإلكتروني، وأضعها هنا لمن يهمه الأمر وللمسؤول عن حل إشكالية هؤلاء الشباب، وأرجو فعلاً أن أجد من المسؤولين مَن يجد في نفسه الجرأة الأدبية وأمانة المسؤولية ليمدنا بإجابة شافية تجلو الموقف وتعالجه.
الرسالة
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نحن حملة دبلوم إعداد مدرِّسي اللغة الإنجليزية للمرحلة الابتدائية الذي أعدَّته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالاشتراك مع أكاديمية الفيصل العالمية والبالغة مدَّته سنتين كاملتين وتكاليفه 25.000 ريال تحمَّلها آباؤنا وأمهاتنا من دماء قلوبهم وشقاء سنينهم، التحقنا بهذا الدبلوم بناءً على الإعلانات التي أعلنتها جامعة الإمام وأكاديمية الفيصل التي أكدت فيها أن الدبلوم معتمد، وأنه يؤهلنا لتدريس مادة اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية فور تخرُّجنا. ووافق ذلك سيل من (التطمينات) التي أكدها مسؤولو الجامعة والأكاديمية مراراً وتكراراً على أسماعنا بأن الأمر مضمون، وأنه ليس علينا إلا مواصلة الدراسة لنجني بعدها الثمرة. ودرسنا وعملنا بكدح بغية الوصول إلى بر الأمان لنفاجأ في نهاية المطاف بأن ما كنا نتبعه طيلة سنتين لم يكن غير سراب، وأن الوعود المعسولة لم تتحول إلى حقيقة؛ مما أدى إلى انتهاك حرمة أموالنا وتدمير مستقبلنا وتحطيم طموحاتنا. فوزارة التربية وبعد طول صمت صرحت بعد تخرجنا أنها لن تقبل حملة الدبلوم لشغل وظائف تدريس اللغة الإنجليزية في الصف السادس. لقد ناقضت الوزارة تصريحات سابقة لمسؤوليها ممن أفادوا بأنه سيتم توظيف حملة الدبلوم لسد الاحتياج. ونحن الآن نعيش مأساة يعجز القلم عن وصفها؛ إذ إننا نمر بحالة من البطالة غير المسبوقة ولم تحدث من قبل. فلو كانت الدراسة مجانية لكان الأمر أقل إيلاماً ونتائجه أخف وطأة، أما أن تكون الدراسة مدفوعة الثمن، والثمن باهظ للغاية، والضحية نحن وأسرنا الضعيفة الكادحة فذلك تسبب لنا ولهم في مصاب جلل، وصار مصدر فقر مدقع لنا ولأهالينا، فكنا وكأننا اشترينا البطالة بأموالنا.
نحن نتلمس عون كل مثقف وكل مَن يحمل في صدره ضميراً حياً وقلباً غيوراً على أبناء وطنه ليكتب موضحاً المعاناة المرة التي نتجرعها بسبب البطالة وما طالنا من ديون للالتحاق بالبرنامج. وإننا نناشد وزارة التربية والتعليم ومعالي الوزير وكذلك الأكاديمية والجامعة لوقف هذا الضرر البالغ الذي لحق بنا.
لدينا من الوثائق ما يثبت صحة ادعاءاتنا، ويثبت انطباق نظام التوظيف في وزارة التربية علينا. رجاؤنا الحار بألا تتركونا في مهب الريح، وأن تهبوا لنجدتنا وإغاثتنا.
ملاحظة: عدد الخريجين يتجاوز 1200 خريج غير عدد الخريجات، والدبلوم دبلوم تربوي يهيئ لتدريس مادة اللغة الإنجليزية للمرحلة الابتدائية.
أبناؤكم الملهوفون (التوقيعات موجودة)
ويبقى السؤال
هذا، وأختم المقال بالسؤال مرة أخرى: مَن المسؤول؟!
وبملاحظة مهمة جداً ألفت نظر القارئ والمسؤول إليها، وهي أنني أنشر هذه الرسالة وقد قرأتُ رداً من وزارة التربية والتعليم على ما يبدو أنه وصلهم بشأن موضوع الرسالة المُشار إليها. ومع التقدير للغة الرد الراقية، ومع محاولة التفهم لموقف الوزارة في شروطها للتوظيف والاتفاق معها أن وزارة تحمل أمانة تعليم الأجيال لا يجب أن تقوم بالتوظيف لمجرد أن هناك مَن يحتاج الوظيفة، فإن ذلك يوضح معايير الوزارة للتوظيف، لكنه لا يجيب عن سؤال: مَن المسؤول إذن عن وضع هؤلاء الشباب؟! فإذا كانت لا حاجة لمثل ذلك الدبلوم الذي (استدان) أولئك الشباب كما جاء في شكواهم ليدرسوا ويحصلوا عليه، فلماذا إذن وجد دبلوم بهذا المسمى (إعداد مدرِّسي اللغة الإنجليزية للمرحلة الابتدائية)؟! ولماذا وبأي هدف جرى إعداده؟! ولماذا مثلاً لم ولا يُوضَّح لمَن يلتحق بالدراسة للحصول على مثل هذا الدبلوم أن الدراسة ومصروفاتها والشهادة التي سيتم الحصول عليها بعد عامين من تكلفة المال والوقت والجهد هي لمجرد أن تزداد عندنا أعداد حملة الشهادات الذين لا يجدون عملاً؟! هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|