د. فيصل البشير :
في حياة الإنسان مراحل كثيرة منها ما هو ذات أهمية بالغة تدمغ في حدتها حياتها إلى الأبد، طرقت كل الأبواب المتاحة لتكملة مسيرتي التعليمية، وكلما أرادت أن تنفرج المشكلة تدخّل بعض عباد الله، في آخر لحظة وأغلقوها، أولئك الذين يتمركزون حول متخذي القرار وكأنهم خلقوا لتعطيل أمور الناس لا لتيسيرها، ولا يرون في الآخر إلا عدواً مهماً كان صغيراً وضعيفاً وفي حاجة للمساعدة، لقد نجحوا في صد أبواب الفرج في حالتي إلى حين، وأخيراً قررت المغامرة والذهاب للدراسة الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية على حسابي وفي جعبتي من المال ما لا يكفي لأكثر من سنة واحدة، مع شد الأحزمة شداً قاسياً طبعاً، وفي ذهني تصميم وعناد ارتقيا إلى حد التهور وعدم المنطقية.
وانقضت السنة الجامعية الأولى على خير، وأثناءها كنت، بين الحين والآخر، أتلمس العون من المصدر الوحيد المتوفر في تلك البلاد لضمي إلى البعثة التعليمية، ويبدو أن النحس كان حليفي، وحين فقدت الأمل من مواصلة دراستي الجامعية، وتحول تحقيق هدفي النبيل إلى حلم بعيد المنال، صحوت من العيش في الخيال والأماني لأواجه الحقيقة المرة (الهزيمة) وحيداً وغريباً، معدماً ومحطماً، فكتبت استغاثتي الأخيرة (شاب جامعي للبيع)، وأرسلتها إلى جريدة القصيم، والتي كنت أكتب فيها أحياناً قبل سفري إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولم أتوقع من تلك الاستغاثة أي نتيجة إيجابية، ألم أذكر أن النحس حليفي الدائم، لكنها كانت بمثابة الصرخة لإقناع نفسي بأنني- والله يشهد- قد حاولت سلك كل الطرق المتاحة لتكملة دراستي الجامعية، ولكن دون جدوى.
وبدأت أبحث عن عمل، أي عمل، لأعيش إذ إن العودة منهزماً لم تكن خياراً حتى لو تشردت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد، واتصلت السفارة السعودية طالبة حضوري فوراً ولم أعر ذلك الطلب أي اهتمام، وفاقد الأمل بمصادر العون لا يلبي.. غير أن إلحاح الرجل الوحيد، والذي لمست فيه كل ترحاب في الماضي، أقنعني بالحضور، وحين زرته في مكتبه بالسفارة في واشنطن سألني هل كتبت بالصحف السعودية، فأنكرت ذلك وبعدها سألني هل تعرف سمو الأمير عبدالرحمن بن سعود بن عبدالعزيز فأنكرت ذلك صادقاً هذه المرة، وعندها علت الحيرة وجهه وفتح مظروفاً وإذا به نسخة من جريدة القصيم العدد (185) بتاريخ 16 ربيع الأول 1383هـ وعلى صفحتها الأولى (تبرع كريم) وصورة الأمير عبدالرحمن بن سعود بن عبدالعزيز وفيها:
ما إن قرأ سمو الأمير عبدالرحمن بن جلالة الملك سعود ما نشر بالقصيم في العدد الماضي عن الطالب الجامعي حتى بعث البرقية التالية....
وعندها صحوت فرحاً لمقالتي (شاب جامعي للبيع) لم تنشرها القصيم كما كتبتها بل نشرت بعنوان (شاب سعودي جامعي يستنجد بالقصيم)، وفتحت الجريدة باب التبرع فكان أول رد من سمو الأمير عبدالرحمن، سلمني بعدها الأخ العزيز الصديق الوفي والإنسان الخير محمد علي التشويهي- جزاه الله خيراً- شيكاً بقيمة التبرع وشيكاً آخر بقيمة ما كنت استحقه من الملحقية التعليمية كطالب مجد يدرس على حسابه الخاص، وخرجت من عنده مردداً: تحيا الصحافة.. ومسترجعاً فوراً ذلك الحلم الذي قد يصبح حقيقة بعد أن هوى.
وفي مساء أحد الأيام الجميلة ودع ملازمي الدائم بدون أسف، ثقيل الظل (النحس) بعد أن بشرني الأخ محمد بانضمامي إلى البعثة التعليمية.
ومرت الأيام، وابتعثت مرة ثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لنيل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، وفي عام 1397هـ وحين كنت في مكتبي بوزارة التخطيط أتتني مكالمة هاتفية من سمو الأمير عبدالرحمن طالباً تحديد موعد له لزيارتي، الأمير الذي حاولت الاتصال به عدة مرات على مر السنين لكن شاء الله أن لا نتقابل، طبعاً فرحت جداً ورحبت بطلبه وقلت لنفسي إنها فرصة للتعرف على سموه شخصياً لأول مرة في حياتي وشكره على ما فعل، وعسى أن يعينني الله على خدمته، وأثناء المكالمة الهاتفية مازحني بأنه سيأتي إلى وزارة التخطيط وهو مثقل الخطى (أي أنه لا يحب زيارتها)، فحيرني قوله إذ إنني كنت أظن أنه يتذكر عمله النبيل لمساعدتي وأنه يجب أن يكون على يقين بترحيبي به، وحين تقابلنا سألته عن تلك العبارة المحيرة، فأجابني بأن وزيرها (أي وزارة التخطيط) اتحادي.. عندها ضحكت وإياه إذ إنني كنت على علم بأن معالي الأخ العزيز هشام ناظر (وزير التخطيط آنذاك) كان اتحادياً قحاً، وسمو الأمير عبدالرحمن (طبعاً) نصراوياً قحاً، كذلك والعلاقة الرياضية بين مشجعي الناديين تفتقر إلى كثير من الدفء، تباحثنا وأثناء النقاش نطقت تأكيداً على صدقي لتنفيذ ما يطلب، بأن لك يا سمو الأمير الفضل الذي لن أنساه، فاحتار وقبل أن يسألني استرسلت بسرد حوادث تلك الأيام المرة أيام النكد واليأس وتحطيم حتى الأحلام وكيف أن تبرعه فتح لي باب الأمل وأنقذني من التشرد والضياع، وحين انتهيت طلب مني أن أعده بأن لا أذكر الموضوع لأحد فوعدته.
والآن.. وبعد أن رحل صاحب السمو الملكي الأمير عبدالرحمن بن سعود بن عبدالعزيز إلى دار الحقِّ، إنني في حل من ذلك الوعد، وها أنا ذا أذكر قصة نبله كعلامة عرفان ودعاء له بالرحمة والمغفرة.
رحمك الله يا عبدالرحمن.. إنني والله مدين ما حييت، فجزاك الله خير صنيع أعمالك في حياتك ومماتك وليسكنك الله فسيح جناته إنه سميع عليم.
( * ) وكيل وزارة التخطيط سابقاً
الأمير عبدالرحمن بن سعود (رحمه الله) |