تحرص الدول المتقدمة عادةً على التواصل مع العالم المقابل، ليس من باب الطمع في الاستفادة، ولكن من منطلق الحرص الكبير على التوصيل المبرمج لما يمتلكه أهل تلك الدول من رسائل أو أهداف قد تكون في مجملها تعبيراً عما يمتلكونه من قدرات، وعما يسعون إليه من وقوف على الحقائق حيثما كانت. فإن هم لم يسعوا إليها عملوا على إحضارها بين أيديهم، وهذا ما تَبْرُعُ فيه الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
في بداية شهر نوفمبر الماضي من هذا العام 2004م وصلتني منحة خاصة من جامعة (دريك) في ولاية (أيوا) الأمريكية، تتلخص في دعوتي لإلقاء مجموعة من المحاضرات، وتقديم عدد من العروض الثقافية، وعدد من اللقاءات العلمية مع الطلبة والعامة. وكانت هذه المنحة كما تعودنا سابقاً تقتصر على البحث العلمي في عناوين محددة يُتَّفق عليها بين الجامعات الأمريكية والباحثين، وسبق لي أن حصلتُ على فرصة البحث ضمن هذه المنحة التي تُدعى Full bright. وجاء هذا التغيير ربما لرغبة الناس في أمريكا للوقوف على الوجه الآخر للتحقيق الذي يدعي الإعلام هناك بأنه وحده الذي يعرفه!!
لا أريد أن أشيد بحسن التنظيم والاستقبال الذي لقيتُه ووقفتُ عليه هناك؛ إذ لستُ بصدد الدخول في أمر الدعاية الإعلانية للأمريكان، كما أنهم ليسوا في حاجة إلى شهادة على حسن تنظيمهم وإدارتهم واستقبالهم في مثل هذه المناسبات. لكنني لا أستطيع إلا الوقوف طويلاً أمام رغبة الشعب الأمريكي وحرصه على إقامة أفضل العلاقات وأقوى الروابط، ليس مع المملكة العربية السعودية فحسب، ولكن مع العالم الإسلامي بأسره، وهو ما أكَّدته عناوين المحاضرات التي أُنيطت بي، والحضور الكبير الصادق والمؤثر في الوقت نفسه من الطلبة والعوام.
اللافت للنظر أن هؤلاء، وخاصة الطلبة، يختلفون عنا عندما يكونون متلقِّين، فهم يحرصون أن يحشدوا كل طاقاتهم في الإعداد للتلقي أولاً، وللتحدي ثانياً، إلى درجة أنك لا تستطيع أن تعرف نفسك إن كنتَ محاضراً فيهم أو منافساً لهم!!.. فهم وقُبيل كل محاضرة دخلتها كانوا يجمعون كل أو معظم ما نشرته وسائل الإعلام لديهم حول موضوع المحاضرة ومقارنته بما لدينا في العالم الإسلامي، وخاصة في المملكة العربية السعودية. وكم كنت أرى الدهشة تملؤهم عندما يصطدمون بحقائق دامغة تتناقض كلياً مع ما يُطرح في بعض إعلامهم من حقائق تختلط فيها مفاهيم الثقافة الإسلامية بالدين الإسلامي. ولقد كثرت الأسئلة حول حقوق الإنسان في الإسلام، وتركزت في معظمها حول حقوق المرأة المسلمة، وحول الإصلاح في المملكة، والروابط الاجتماعية في الإسلام وعلاقتها بالجنس البشري، والثقافة الإسلامية وتطورها عبر العصور، أو أثر الدولة الإسلامية في الحضارة العالمية، والقوانين العالمية في الإسلام، وما تضمنته المفاهيم الإسلامية من قيم اجتماعية، وما أحرزته من موروث إنساني يقف ضد العنصرية، ويحارب التطرف والمغالاة، وربط ذلك بالحياة السياسية في المملكة العربية السعودية وما يحدث فيها من تطورات خاصة بالانتخابات البلدية، والتوجه إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي والتعليم. وسوف تكون لنا وقفة مع كل عنوان من هذه العناوين؛ مما يشكل أهمية بالنسبة لنا كمسلمين وسعوديين, وهم كشعب أمريكي يبحث عن الحقائق من مظانها, وينتظر طويلاً قبل أن يأتي من بيننا مَن يوصل إليه تلك الحقائق.
فهل سنبقى ننتظر المنح الغربية التي تدعونا إلى شرح وجهات نظرنا ومواقفنا من أنفسنا، أم نرفع الصوت عالياً فنهيب بالجهات المختصة أن تبادر إلى وضع البرامج والمنح المشابهة بهدف البحث عن الحقائق في حدها الأقصى ومستواها الأعلى وعرضه على الآخر، حتى لو اضطررنا إلى أخذ إجازة اضطرارية من جامعاتنا.. التي لا ترى مجالسها أن ذلك من ضمن أولوياتها.. وتاليتها؟!!
فاكس 2051900 |