يقول علماء الاجتماع: إن الشعوب حديثة العهد بالأمية شعوب تاريخها روائي وثقافاتها شفهية.. تعتمد في حفظ الحوادث وسردها على المشافهة والتناقل اللفظي والرواة.. وقصاص الحكايات.. أي أن التدوين لم يكن السجل لذاكرة تلك الشعوب.
المشكلة في التجربة الشفهية.. أنها لا بد أن تكون انتقائية ووفق هوى الراوي.. فهي تسترجع من الذاكرة.. ولا تقف المشكلة عند هذا الحد، بل تتجاوزه إلى احتمال أن يكون راوي الحدث قد تلقى تفاصيله من راوٍ لم يشاهد الحدث، وإنما تلقاه بالرواية عن راوٍ آخر.. ولا يخفى على القارئ ما تعنيه تلك السلسلة من احتمالات التعديل أو التحرير أو التبرير أو الحذف أو الإضافة.. وكل ما يعتري النفس البشرية من خيرٍ أو شرٍ أو نسيان أو هوى.. وما يقود إليه ذلك من انتقائية وإقصائية وانحياز.
ولا يختلف اثنان على أن مجتمعنا في المملكة حديث عهدٍ بالخروج من الأمية القرائية.. وبالتالي فنحن لدينا تلك الصفات التي تتصف بها مجتمعات المشافهة.. وكما يقول علماء الاجتماع أيضاً: إن الشعوب التي لا تنعتق من إسار المشافهة تظل ترزح في أغلال الجهل.. والمشافهة لا تتسع للخبرة التراكمية.. وليس ثمة معلومة أو تجربة موثقة تضيء الدرب وتقود إلى معلومة أخرى.
ولو نظرنا إلى ما يُنشر من أبحاث ويُعرض من برامج في المحطات الفضائية عن قضايا وأحداث تاريخية للشعوب الأخرى المجاورة لنا والبعيدة عنا، لأصابتنا الدهشة من كم الأحداث التي مرت عليهم والتجارب التي عركوها والمعارف التي اكتسبوها نتيجة لذلك.. وهذا يثير التساؤل عنا نحن.. وكيف أننا ورغم أن بلادنا في قلب الحدث منذ الرسالة المحمدية.. وفي موقع جغرافي مهم جداً، وهي قبل كل ذلك قبلة المسلمين في العالم، لا يوجد لدينا برامج أو دراسات بحثية عن أحداث أو قضايا مرّت بها بلادنا.. هل لأننا مجتمع ساكن؟.. أم لأننا مجتمع متحفظ منغلق لم نفكر في دراسة وعرض قراءات عما مرّ بنا.. من تجارب رغم أن ما مرّ بنا كثير.
وأستطيع أن أعرض أكثر من عشرة أحداث وقضايا وطنية مهمة.. لم يتم التطرق لها أو دراستها رغم مرور أربعين سنة على بعضها.. ولعل قصف نجران بالطائرات.. والتفجيرات الإرهابية في منتصف الستينيات الميلادية.. وحرب الوديعة.. واحتلال جهيمان للحرم.. ومعركة الخفجي.. كل ذلك أقرب للذاكرة الجماعية الوطنية.
بحكم عمل والدي - حفظه الله - فقد كنت قريباً من أحداث تفجيرات الستينيات الإرهابية.. (عن طريق السماع طبعاً).. كذلك أتيحت لي المعرفة الشخصية ببعض العاملين في وزارة الداخلية المباشرين لتلك الأحداث.. وبعد مرور أربعين عاماً عليها التقيت ببعض هؤلاء الرجال الذين عاصروا تلك الأحداث كعاملين فاعلين منجزين.. وطرحت عليهم تساؤلات بدت لبعضهم مزعجة.. لا أدري ما الذي أزعجهم فيها؟
فالعالم اتفق على أن مرور 30 سنة على حدث ما.. يصبح حدثاً مشاعاً لا أسرار فيه.. ونحن مضى على كثير من أحداثنا أكثر من هذه المدة.. فلماذا لا نستقي من دروسها في ظل وجود أبطالها؟.. أليس ما مروا به تجربة كبيرة لهذا الوطن؟.. لقد قلت لهم إن المطلوب فقط.. هو تدوين الأحداث الرئيسة والأحداث الجانبية المصاحبة لها.. وربط تلك القصص والروايات من كل المعاصرين لها بالتدوين خشية فقدها.. وهذه هي الخطوة الأولى.. ولعل الله العلي القدير أن يقيض لوطننا محللين دارسين باحثين يفصلون ما تم تدوينه ويكتبونه كتجربة معرفية نستفيد منها.
إن الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري والشيخ إبراهيم بن عبد الله العنقري والفريق أول صالح بن طه الخصيفان أمثلة حية سوف نبكي على فقد ما لديهم من معلومات ورؤى وتجارب حية وهم جميعاً أمدّ الله في أعمارهم ما زالوا قلائد في عنق مجتمعنا لهم من حضور الذاكرة وحصافة الرأي ما يجعلنا نعتمد عليهم كرواة ثقات لتلك التجارب.
لقد طرحت في مناسبات مختلفة على معالي الفريق أول صالح الخصيفان وضباط آخرين عاصروا تفجيرات الستينيات وما تلاها من أحكام أنهت المشكلة.. فكرة توثيق تلك المرحلة ورواية القصص والأحداث التي عاصروها.. كل من زاويته، والذي واجهه هو وشاهده بنفسه وعاش أحداثه.. والمطلوب فقط هو تدوين ما يتذكرونه.
اتفقت إجابات كافة من اتصلت بهم على أن هذه أسرار وطنية ليست للنشر.. وكان الرد على هذه الحجة هيناً وبسيطاً.. فالمطلوب ليس النشر بل الحفظ في مكتبة الملك فهد الوطنية مثلاً كإرث معلوماتي لا بد من الاحتفاظ به وعدم فقده نتيجة فقدنا لمعاصريه.
أما الإجابة الثانية التي اتفقوا عليها.. أنه لم يتم توجيههم.. وهم لن يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم.. أما الإجابة الثالثة فقد كانت لبعضهم أننا ضباط متقاعدون لا نملك رفاهية الكتابة عن تجارب عاصرناها.. ناهيك عن أننا لا نمتلك المهارة لنفعل ذلك.
والسؤال الذي لا يزال يدور في الذهن ويحزّ في النفس.. هو.. لماذا يترك ولاة الأمر هذه الأحداث التاريخية للنسيان؟.. ولماذا تُترك قضايا الوطن للروايات وحكايات المجالس وثرثرة الفضوليين وأهواء المغرضين؟.. إننا إن لم نبادر إلى توثيق أحداثنا التاريخية فسوف يقوم بها غيرنا.. بكل ما يعنيه ذلك من توجيهٍ أو تحريفٍ أو تجنٍ.
الحياة عبارة عن فعلٍ تراكمي.. بتجاربها ومعارفها ومعانيها وقيمها.. وهذا التراكم يقاس به النجاح والعلو، ولولا تراكم المعرفة لأصبح لزاماً على كل جيل جديد أن يعيد اكتشاف العجلة.
فاكس: 4792350 |