على الرغم من موقفهم المتشدد من البث الفضائي إبان ظهوره في أوائل التسعينات الميلادية إلا أن الإسلاميين - وبكل أطيافهم - أعادوا النظر بعد ذلك بسنوات في مبدأ الإحجام عن خوض غمار البث الفضائي إذ لم يعد بوسعهم إدارة ظهورهم لهذا التطور الإعلامي الرهيب الذي يتيح لهم فرصة إيصال خطابهم إلى ملايين المشاهدين، وصار بعض العلماء وأغلب الدعاة يقبلون الظهور في المحطات الفضائية خاصة مع تزايد إقبال المجتمعات الخليجية على اقتناء الأطباق الفضائية (إذ تشير بعض الاحصائيات إلى أن 75% من الخليجيين يتابعون الفضائيات في منازلهم) كما أن لظهور بعض الآراء الفقهية التي تبيح مشاركة الدعاة في المحطات الفضائية حتى ولو كان في بعض برامجها الأخرى منكرات ومخالفات شرعية أثراً في تخفيف حدة الرفض القاطع للمشاركة في البرامج الفضائية، كما أن القنوات الفضائية رحبت من جانبها بهذا الإقبال نظرا لرغبتها في إضفاء قدر من الجدية على خريطة برامجها ولما لمسته من ارتفاع نسبة إقبال المشاهدين على البرامج الدينية، ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد كيف كان إقبال المستمعين على برنامج الإفتاء الذي كان يقدم عبر إحدى الإذاعات في شهر رمضان سببا في تحويله إلى برنامج فضائي أسبوعي ما زال يعرض حتى الآن نظرا لنجاحه في استقطاب المشاهدين من العالم العربي.
واستمرت علاقة الإسلاميين بالمشاركة الفضائية قائمة على هذا النحو الفردي المتمثل في تقديم برامج دينية أو ثقافية في هذه القناة أو تلك إلى أن بدأ بث قناة اقرأ الفضائية عام 1998م والذي جاء مؤذنا بتدشين مرحلة جديد للبرامج الإسلامية الفضائية التي وجدت في هذه المحطة بيتا يضم شتاتها بعد أن كانت متناثرة هنا وهناك، كما أسهم ظهور هذه القناة في تلك الفترة الحرجة المضطربة - سياسياً وفكرياً - بكسر الحاجز النفسي بين الإسلاميين والعمل الفضائي الاحترافي، وبرهنت - اقرأ - عملياً على قدرة الإعلام الإسلامي على الحضور الجيد والمنافسة رغم كل الصعوبات التي واكبت مراحل نشأتها الأولى؛ الأمر الذي أثار حماس عدد من المهتمين بالشأن الإعلامي والدعوي ودعاهم إلى مدارسة إنشاء محطات إسلامية مماثلة حتى صدر في هذا السياق قرار من الحكومة السعودية بدراسة مشروع إنشاء فضائية إسلامية، كما طالب جامع الأزهر في جمهورية مصر العربية بتأسيس قناة مماثلة يكون خطابها الإعلامي موجها للغرب بصورة أساسية، ومع مطلع الألفية الثالثة حدثت ثورة اتصالية في منطقتنا العربية تمثلت في بدء تشغيل أقمار اصطناعية جديد تمتاز بتدني تكاليف البث وافتتاح بعض الدول العربية لمدن الإنتاج الإعلامي الضخمة التي سهلت مراحل الإنتاج الإعلامي ووفرت استوديوهات للبث المباشر وفق أحدث التقنيات وبتكلفة تقل بنسبة 40% عن السنوات الماضية مما أدى إلى ازدحام الفضاء بالقنوات العربية الجديدة التي كان للقنوات الإسلامية منها نصيب، فظهرت قناة (المنار) ثم أطلت على المشاهدين شبكة (المجد) بقنواتها المتخصصة، ويترقب الإعلاميون ولادة قنوات أخرى كقناتي (الفجر) و (مكة) اللتين ما زالتا في مراحل الدراسة والإعداد والبث التجريبي.كما نجحت بعض الفضائيات في إنتاج عدد من البرامج الدينية المتميزة في أسلوب إعدادها وعرضها والتي أزالت الصورة النمطية للبرنامج الديني واستطاعت أن تقدم المعلومة الشرعية والتوجيه الإسلامي بقالب جديد وبأسلوب مشوق ومن خلال قنوات لها جماهيرية كبيرة في العالم العربي حتى أن إحدى الفضائيات التي كانت نسبة البرامج الدينية فيها (0%) في مطلع التسعينات رضخت لهذا الاتجاه وبدأت بعرض أحد البرامج الدينية ذات الجماهيرية العالية، كما كان للظرف السياسي المتمثل في ارتفاع موجة العنف والإرهاب في العالم خلال السنوات الثلاث الماضية دور بارز في تكثيف نسبة البرامج المتصلة بالشأن الإسلامي، سواء أخذت منحى دينيا أو فكريا أو سياسيا تبعا لأهداف المحطة وعلى حسب توجهات القائمين عليها، حيث عمقت هذه الأحداث صلة الإسلاميين بالفضائيات كوسيلة اتصال لأنها أصبحت من أهم وسائل عرض مواقفهم إزاء قضايا الإرهاب وكانت تشكل لهم منبرا لشرح تفسيرهم لأسباب حدوثها وكيفية احتوائها، كما أن الفضائيات من طرفها وجدت في هذه فرصة سانحة لطرح كافة الانتقادات الموجهة للخطاب الديني مما جعل للحوار والنقاش الدائر فضائياً متابعين كثرا؛ وأدى ذلك بدوره إلى إتاحة لفرصة المشاركة لأطياف متعددة من الإسلاميين لم يكن من الممكن لها أن تشارك في غير هذا الظرف ومن دون هذه التحولات (كالليبراليين الجدد - والسلفيين التقليديين) .
هذا الحضور الكبير واللافت للإسلاميين فضائياً - خلال السنوات العشر الماضية - يعد نجاحا لهم لأنهم تمكنوا من خلاله من تجاوز مخاوفهم من الحداثة بصورتها الإعلامية وأفلحوا في كسر حاجز الرهبة من الآثار المتوهمة من مثل هذه المشاركات وأزالوا طوق العزلة الذي كان يحول بينهم وبين جمهور المتلقين في العالم العربي.
ومن رام مثالا للنجاح الذي حققه الإسلاميون كأفراد على شاشات الفضاء فليتابع برامج الداعية المصري عمرو خالد الذي تمكن في فترة يسيرة من الاستحواذ على اهتمام المسلمين حول العالم نظرا لما تمتاز به أطروحاته من تدرج في العرض وتقسيم للأفكار على شكل جرعات مبسطة وربط للمسلم المعاصر بنماذج منتقاة من السلف الصالح، ولما يوليه من اهتمام بتحضير المادة العلمية ولقدرته على تحريك عاطفة المسلمين الدينية وتحويلها إلى طاقات نافعة للمجتمعات الإسلامية في طرح إيماني آخاذ متحرر من ربقة الحزبية ومتعالٍ على الأدلجة الزائفة المتبعة لهذا الاتجاه أو ذاك.
أما من أراد مثالا للنجاح المؤسسي فعليه أن يخلع قبعته احتراما للمشروع الإعلامي الفريد الذي دشنته قناة المجد الفضائية والتي تمكنت في أقل من عام في أن تسوق جهاز استقبالها الخاص بأرقام كبيرة (45 ألف جهاز) وأن تبدأ في تشغيل ثلاث قنوات فضائية في أقل من عامين في إنجاز إعلامي غير مسبوق - حيث إن المحطات الفضائية لم تتوسع في عدد قنواتها إلا بعد ثمان سنوات من انطلاقتها - وأسهمت قناة المجد في نقل صورة إيجابية عن الفكر السلفي المعتدل لتنضم مع شقيقاتها القنوات الإسلامية الأخرى في تقديم نماذج من الخيارات المحافظة للأسرة المسلمة.
كما أن الإقبال الكبير من الجمهور على متابعة برامج الفتاوى على اختلاف صورها وأنماطها يمثل شكلاً هاما من أشكال النجاح الفضائي للإسلاميين، إذ تؤكد كمية الأسئلة المتلاحقة التي توجه للبرامج الإفتائية في كافة المحطات الفضائية عبر الهاتف والفاكس والإنترنت قدرة هذه البرامج على جذب اهتمام المسلمين، خاصة إذا ما فرزنا الشرائح الاجتماعية المتنوعة التي تطرح الأسئلة وتمعنا في شمول الأسئلة لكل مجالات الحياة؛ الأمر الذي يشير إلى نجاح هذه البرامج في تلمس اهتمام المشاهدين وقدرة المشاركين فيها على الإفادة والمعالجة الحكيمة، إنني أدرك أن لقياس النجاح الإعلامي معايير محددة على مستوى ولكننا - للأسف - لا نملك في العالم العربي الوسائل والآليات والمؤسسات المستقلة القادرة على قياس النجاح الفضائي وفق الأسس المهنية وبتجرد وموضوعية إذ ما زلنا نفتقر - على سبيل المثال - لوجود المؤسسات المستقلة لاستطلاع آراء المشاهدين وتحديد ميولهم ودرجة متابعتهم للفضائيات العربية وفق الأسس الموضوعية المتعارف عليها عالميا، وحتى لبنان الذي تسيطر قنواته الفضائية على السوق الإعلامي ما زال مفتقرا للمؤسسات النزيهة التي يمكن الاعتماد عليها في تحديد نسبة المشاهدة لهذه القناة أو تلك، وكلنا يعرف الدعوى القضائية التي رفعتها أربع محطات فضائية لبنانية تجارية على إحدى مؤسسات استطلاع الرأي العام نظراً لمحاباتها دوما لإحدى المحطات هناك.ومن هنا أجدني غير مطمئن للدراسات التي تنشر في بعض الصحف حول تدني نسبة مشاهدي البرامج الدينية (بعض الدراسات تقول إن 5% من المشاهدين فقط تتابع البرامج الدينية!) نظراً لافتقارها للمصداقية ولضيق مفهوم البرنامج الديني لديها، كما أني لا أنساق خلف الأرقام المهولة التي تعلنها بعض المحطات الإسلامية عن ارتفاع نسبة مشاهديها وأنها باتت المحطة العربية الثانية بعد قناة الجزيرة اعتماداً على استطلاع للرأي أجري في موقع إسلامي على الإنترنت أغلب متصفحيه من الإسلاميين!! وأجد أن كلا الطرفين مبالغ في تقديره، ولكني ألمس من خلال قربي من بعض الفضائيات الهادفة واحتكاكي بالوسط الإعلامي ومتابعتي لأصداء البرامج الإسلامية في المجالس أن برامج القنوات الإسلامية متفاوتة في جاذبيتها للجمهور حسب طبيعة البرنامج ووقت عرضه، شأنها في ذلك شأن أي فضائية أخرى، وأن الفضائيات الإسلامية لها جمهور عريض في الدول الأوروبية أكثر من جمهورها في الدول الخليجية لأسباب ليس هذا مجال شرحها.
إننا بالقدر الذي ندرك فيه جوانب النجاح ونشيد بها نحاول أن نتلمس أوجه القصور والخلل حتى تتلافها القنوات والبرامج الإسلامية إذا هي أرادت الاستمرار في مجالها الإعلامي، وأعتقد أن العناية بالإعداد الجيد للبرامج الإسلامية كفيل - بإذن الله - في تحسن قدرتها على المنافسة، وهو ضمان لتجاوزها لكثير من أخطائها؛ لأن الإعداد المتكامل للبرنامج الفضائي هو المدخل الرئيسي لنجاحه، والإعداد الجيد يستلزم تأمين عدد من الخطوات (منها على سبيل المثال وضع محاور محددة للنقاش - اختيار نوعية الضيوف - إعداد تقارير ميدانية - ضبط وقت المداخلات.. إلخ) وهذا الإعداد - والالتزام به عمليا عند تسجيل الحلقة - من أهم عوامل ومقومات نجاح البرنامج وسبب هام في إقبال الجمهور على مشاهدته أو انصرافهم عنه، ولكن بعض البرامج الإسلامية لا تولي هذا الجانب عناية تذكر مما يفرز وقوع عدد من الأخطاء التي قد تضعف من قابلية المشاهدين على كامل برامج القناة، ويظهر ذلك جليا في بعض الأحيان من خلال ضعف المادة العلمية وسيادة الأسلوب الارتجالي على بعض البرامج، وتكرار الضيف لنفس المضامين في أكثر من حلقة، وطغيان العبارات الإنشائية والنواحي البلاغية والاستطرادات الشعرية في برامج جادة تختلف أدواتها عن أدوات خطبة الجمعة.كما أن التراخي في تشكيل مجموعة عمل لإعداد البرنامج أدى إلى تفشي أحادية الرأي في بعض البرامج الإسلامية وعدم وجود مساحة للتعددية - في ظل المرجعية المتفق عليها عند تأسيس المحطة - الأمر الذي أظهر برامجها على نمط واحد، وبدا ذلك جليا في الندوات التي يشارك فيها عدة متحدثين كلهم يؤمنون على ما يقوله الطرف الآخر على الرغم من أن الموضوع المطروح للنقاش يحتمل الاختلاف بنوعيه: التنوعي والتضادي، ولأنهم يشعرون أن في الاختلاف أمام المشاهدين خروجاً للبرنامج عن وجهته وما علموا أنه يحقق سمة إعلامية إضافية وأن المداخلات والتعقيبات تلامس في مكنونها اهتمام شريحة جديدة من المشاهدين.كما أدى ضعف الإعداد لبعض البرامج إلى شيوع مفهوم (الشيخ الشامل) الذي يملك القدرة على المشاركة والحديث بإسهاب في كل شؤون الحياة، بدءاً بالاستنساخ وانتهاء بمصادر تمويل الإرهاب، في استخفاف ظاهر بعقلية المشاهد وانتقاص غير مقبول لمبدأ التخصص وجرأة غير محمودة على الخوض في ما يحسنه المرء وما لا يحسنه حتى أتى بعضهم بالعجائب، ومرد ذلك - في تقديري - إلى تراخي المعدين في الوصول إلى المتخصصين القادرين على المشاركة في البرامج الفضائية كل في مجاله.وختاماً أقول: إن الحضور الإسلامي الفضائي بحاجة ماسة إلى أن يدرس من قبل المهتمين بشأنه سعيا لتدعيم مؤسساته القائمة ورغبة في تسديد خلله، لعله أن يكون عاملا من عوامل حفظ هوية الأمة في زمن العولمة القسرية الآتية من الفضاء.
|