عدت من إجازة قصيرة. توقعت أن الهرب من النفس إلى النفس سيكون ملاذا، في حين تتقاطر الأنباء والكوارث بما لا نطيق أو نحتمل، توقعت أن مقاطعة الروتين بما في ذلك الصحف التي تحمل واردا غير رائحة الأهل ودفء البيت ستكون حلا جازما، لكنني اكتشفت أننا أصبحنا رهائن وقتنا، وأن السياسة أصبحت رغم ثقلها جزءا يسيرا من حياة الناس وتعاطيهم تفاصيلها حتى على موائد الطعام.
ما يشدنا ويثير جدليته حول تفسيرنا لمثل هذا الأرق, هو كيف تتحول التأثيرات، وتتلون بفعل الأجواء والمحيطات، بل وتصبح طاغية على حيوات مختلفة؟ ولماذا يبدو كثير من الناس في مجتمعات بعينها كأنهم أسرى لأخبار الساعة، وأن أكثرهم أصبح يتعاطى المهدئات جراء نزعة الأخبار القاسية التي باتت لا تفرق بين عليل وصحيح؟ وأن وقتا مضى كان أكثر رفقا بنا، قد تولى واختفى خلف سطوة الإعلام التجاري الذي ينافس بعضه بعضا، وينقل لنا الصور الأكثر قبحا، كأننا أصبحنا جزءا من مهامه التسويقية؟
وبما أن جزءا كبيراً من البشر قد اعتادوا على أخبار روتينية مملة في غالبها، إلا أن انفتاح هذا العالم على مصراعيه وعبر بوابة الإعلام قد أصبح هو السلاح المخدر دون أن نعلم، كما أن مزعومة (نقل الحقائق كما هي) قد أصبحت مقولة مشروخة، والا كيف نرى عوالم أكثر منا توهجا وانشغالا بتقدم الحياة لا سواها، بما في ذلك الإنسان ومتاعبه وحقوقه المزعومة والمفترضة قد مارسوا حياتهم من جهات أخرى، في حين تقدمت بهم الحياة وشرعت أبوابها، بينما بقيت أجيال العالم الثالث محقونة بما تمدها به الأخبار المكتظة بكثير من الشحن والاستجلاب نحو هوة مصائر مجهولة!
تجد ذلك في مقارنة سريعة، وأنت ذاهب إلى مدن يفترض أن تكون من ضمن المحظورات في قائمة الشحن والاستعداء، تبدو تائهاً ومرتبكا للوهلة الأولى، تتمنى لو هربت بتفاصيلك وسحنتك العربية والمسلمة خوفا مما تقيسه استفهاماتك عطفا على ما تستمع اليه وتقرؤه كل صباح، فتجد ان مثل هذه المدن أكثر أريحية من أمكنة مختلفة، فهي لا تقيس ملامحك، ولا تهمش ملتك، ولا تنظر إليك بما هو ادنى من قيمتك الكريمة كمخلوق، في (مدينة الضباب) والتي لم أرها منذ ثلاث سنوات. كان خوفي أن تكون هي الأخرى طريحة السياسة، وأن أكون إحدى ضحايا انحدار هذا العالم، لكنني دهشت منذ الوهلة الاولى، بعد ما رأيت مطارها مملوءاً بالمحجبات، وهن بالطبع بريطانيات، وهو ما قد يتصور البعض أنهن عاملات نظافة أو ما شابه ذلك، لكن الحقيقة أن من رأيت كن بوظائف مهمة، ومثل ذلك تتابع في المتاجر ومحطات القطار، هذا كله بدا لي متناغما مع حقيقة احترام الآخر، حتى وإن كان أقلية، وأن الايمان بكل معطيات الحياة بما فيها الإنسان وحقوقه لهي بالفعل أهم المنجزات الحضارية على الإطلاق، أما لغة النفي والإبعاد والتعنصر، فيجب أن تنفى إلى مكان قصي لا صلة له بوجود الإنسان ومعطياته وحقوقه، لنضمن وفي الحدود الدنيا من التمني العيش بسلام بعيداً عن شعارات، حلها لا يتضامن الا مع الموت.
|