كان التعليم في نجد قبل سبعين سنة يتمثل في مستويين: المستوى الأول هو ما يطلق عليه تعليم الكتّاب الذي يبدأ بحروف الهجاء والخط وقليل من مبادئ الحساب.. وينتهي بختم القرآن (وتجريده) أي إعادة قراءته على المعلم مرة ثانية أو ثالثة لضبطه وإتقانه.. ثم يكون مسك الختام (الزفة) التي تجمع جميع طلاب المدرسة ومعهم المعلم حيث يتجمعون في مكانٍ واحد.. ثم ينطلقون إلى بيت أهل الصبي المزفوف.. ويكونون خلفه حيث يتقدمهم راكباً فرساً أو حصاناً، وهم راجلون.. ويرحب بهم والد الصبي واخوانه وأقاربه عند باب البيت.. ويجلسون مباشرة على الطعام الذي أعد لهم بهذه المناسبة وهو عادة صحون الجريش، والقرصان، ولحوم الذبائح. بما يكفي ذلك الحشد الذي يتراوح بين (100 - 120). أما (الرز) فهو قليلٌ، وسعره غال جداً.. فثمن الكيس (السربال) حينذاك في حدود الـ200 ريال.
وعند هذا الحد ينتهي الطالب من الدراسة.. وبعدها إما أن يشقى مع أهله في الفلاحة أو أية مهنة معيشية يزاولونها.. أو يكون عاطلاً. ولا مهنة له حتى يكبر فيعمل كما عمل أهله
أما المستوى الثاني من التعليم وهو الأرقى:
فهو الجلوس في حلقات المساجد التي يقوم بالتعليم فيها العلماء والقضاة وطلبتهم المتفوقون، ويكوّن الدارسون حلقة هلالية جثياً على الركب.. وهذه الحلقات تختلف قوة وأثراً حسب العالم أو المعلم الذي يتلقى عليه الدارسون علومهم في العقيدة، والشريعة، واللغة العربية وعلوم الفرائض أي قسمة المواريث. وفي كتب السير والتاريخ... إلخ.
هذا الصنف من التعليم يتوافر بنسبٍ مختلفة في كل مدينة وقرية.. ويعتمد انتشاره وفاعليته على نسبة من تكون لديهم الرغبة والفراغ - النسبي - التحصيل العلمي. وقلة قليلة جداً هم الذين يزاولون هذا النوع الرفيع من التعلم.. ومخرجات هذا التعليم على قسمين.. الأول:
هو القسم الجاد المثابر على تلقي هذه الدراسة.. الذي يمكث في تحصيلها بضع سنوات ويتبوأ المتخرج في هذا القسم.. القضاء الشرعي في أية بلدة أو منطقة. وتعتبر هذه الوظيفة أشرف وأعز مكانة اجتماعية.. ومنصب القاضي أكبر وأهم من منصب أمير المنطقة.. ومع ذلك يوجد من يرفضها - توُرّعاً - إلا أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - إذا وجد الشخص المرشح للقضاء، أهلاً لها.. فإنه يُلزمه بأي طريقة كانت. والاقناع سيد المواقف...!
وبعض القضاة يمارس عمله مدة فان رغب المكان وأهله استمر.. وإلا فإنه يحاول التملص والافلات منها مع التماس الأعذار التي يرفعها إلى الملك عبد العزيز بإعفائه أو نقله من تلك البلدة.. ومثالاً على ذلك أن (الشيخ علي بن زيد) قاضي الأرطاوية - رحمه الله - أول عمله في القضاء كان في بلدة (قرية) وقد ملّ منها فكتب إلى الملك عبدالعزيز يصف (قرية) هكذا: (عجاج.. وماء هماج.. ونسأل الله منها المخراج..) فنقله الملك عبدالعزيز إلى (الأرطاوية) قاضياً.. وبقي فيها حتى وفاته في أواخر القرن الماضي.. وقد تخرج على يديه في هذه الهجرة عشرات من طلبة العلم وأئمة المساجد.
القسم الثاني من مخرجات هذا التعليم:
هم الذين لم تسعفهم ظروف الحياة بالمثابرة الطويلة في التحصيل العلمي المعمّق.. ولكنهم حصلوا على قدرٍ من العلم يجعلهم (خير الموجودين) في هذه البلدة أو تلك.. ومنهم والدي - رحمه الله - الذي كان زميلاً للشيخ عبد العزيز بن صالح إمام المسجد النبوي.. أثناء دراستهما على الشيخ العلامة عبد الله بن عبد العزيز العنقري شيخ وقاضي منطقة سدير.. ومقر إقامته مدينة المجمعة - رحمه الله - ولكن الشيخ ابن صالح كان جاداً ومتفرغاً لطلب العلم عدة سنوات.. أما والدي فكان محباً لطلب العلم ولكنه غير مواظب على حلقة الشيخ العنقري لبعد المسافة - نسبياً - من حرمة إلى المجمعة.. على الاقدام.. من ناحية ولكثرة أسفاره وأكثرها مع (البدو) مرشداً وراقياً للمرضى وبخاصة من يصابون بمسٍ من الجن. وكان في زمانه من أشهر القراء على الممسوسين في سدير ثم تلاه زمناً عبدالعزيز بن عيبان في (التويم) ثم إبراهيم بن تركي في المجمعة.. ثم بعد هؤلاء الثلاثة، بزمن اشتهر في هذا المجال ابن سويلم في جلاجل.
كانت أسفار الوالد خارج بلدته طلباً للرزق الكفاف سبباً في انقطاعه عن متابعة تعلمه على الشيخ العنقري وهو العالم الوحيد المشهور في منطقة سدير بأكملها. وذلك ما جعل البون شاسعاً بينه وبين زميله سابقاً الشيخ عبد العزيز بن صالح الذي أصبح عالماً مشهوراً. رحم الله الجميع وأسكنهم بحبوح جنته.
وعوداً إلى التعليم البدائي في مدن وقرى نجد في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري..
لقد أدركت في بلدتي في عشر الستينات من القرن الماضي ثلاثة كتاتيب.. اثنان للبنات وواحد للأبناء. وتعلمت الهجاء وبعض القرآن في (مدرسة أبو حمد الماضي) حتى أنشأ عبد العزيز بن الشيخ عثمان بن سليمان مدرسة حرمة المتطورة، التي طبق فيها كثيراً من مواد منهج (إدارة المعارف) قبل وجود الوزارات. والتحقت بها وتخرجت فيها مع دفعة من الزملاء الذين بقوا في البلدة..
أما أنا فلعل هاجس طلب العلم عند الوالد وعند الشيخ ابن سليمان - رحمهما الله - هو الذي فتح لهما باب الرغبة في أن أسافر إلى الرياض لطلب العلم على كبير العلماء حينذاك الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - إلا أن تحقيق هذه الرغبة لم يتم إلا بعد وفاة الوالد ثم وفاة عثمان بن سليمان - رحمهما الله-.
ولرحلتي إلى الرياض طلباً للعلم حديثٌ آخر يأتي في مناسبته -إن شاء الله-.
هذه مدرسة حرمة المطورة ولكنها غير معتمدة من إدارة المعارف في المملكة.
أما تعليم البنات: فقد قام على أكتاف سيدتين فاضلتين: إحداهما (حصة الثابت) أم زامل اللعبون - والأخرى (فاطمة التركي) كل منهما تفتح بيتها يومياً صباحاً، لتعليم بنات بلدتهن القرآن الكريم, وقبل ذلك - طبعاً - تعليم الهجاء.. وكتابة الدرس يومياً.. في الألواح الخشبية.. وهو مما يجعلهن يعرفن القراءة والكتابة المبدئية..
أول مدرسة نظامية في حرمة
أما أول مدرسة ابتدائية نظامية افتتحت في حرمة فقد كان ذلك عام 1368هـ وكنت - دون منة أو فخر - الرجل الذي سعى في وجودها حتى تحققت. ذلك أن صحيفة (أم القرى) نشرت خبر افتتاح مدرسة في جلاجل، ومدرسة أخرى أظنها في (مرات).. فحملتني الحمية وحب الخير لبلدتي - ان جمعت أربعة من وجهاء حرمة ويمثلون أربع أسر معروفة. وكانوا جميعهم موجودين في الرياض حينذاك.. وكنت أنا ساكن في إحدى غرف (الرباط) كأحد طلبة الشيخ محمد بن إبراهيم. والرجال الأربعة هم: (العم عبد الرحمن بن زامل بن إدريس) جد أولادي فيما بعد.. ووالدي كان متوفياً قبل سنوات، و(محمد بن فهد المدلج) و(عبدالله المحمد العبد الكريم) و(إبراهيم بن عثمان العقيل) - رحمهم الله -.
عرضت عليهم فكرة طلب فتح مدرسة في حرمة فوافقوا وفوضوني على ذلك فكتبت خطاباً إلى الملك عبد العزيز وذهبت به إلى الشيخ عبد الله العنقري، وكان زائراً للرياض وربما بدعوة من الملك عبد العزيز فأيدني على الاقتراح، ودعا لي بالتوفيق في تحقيق هذا الهدف النبيل. فرفعت برقية بالموضوع إلى الملك عبد العزيز وأحالها إلى الشيخ محمد بن مانع مدير عام المعارف، بالموافقة على فتح مدرسة في حرمة. وأرسل إلى الشيخ محمد بن مانع برقية تفيد بموافقة الملك على الطلب. وقد تم فتحها ضمن المدارس الجديدة في جلاجل ومرات عام 1368هـ - ولله الحمد والمنة -.
|