* تحقيق : أحمد محمود المحمود :
يعد البكاء وسيلة الطفل التي يلجأ إليها عند الحاجة بما يثيره من عطف في قلوب من حوله خصوصاً الأم، وهو أحد أشكال التعبير عن الرفض، فالبكاء هو الصوت الأول الذي يصدر عن الطفل فور خروجه من رحم أمه، يعبر به عن رفضه للعالم الجديد. إلا أن هذا البكاء لا يلبث أن يتوقف بمجرد حمل الطفل ومنحه الأمان بضمه إلى صدر أمه وتعريفه بمصدر غذائه.
هذا الحضن الحنون يلجأ إليه الطفل عندما يتعرض لأي خطر خارجي أو عند أي ابتعاد أو انفصال عنه مستخدماً الوسيلة ذاتها (البكاء).
وتعد المدرسة ودخولها ويومها الأول من أكثر الظروف تكراراً حيث يخشى الطفل الدخول إلى هذا المجتمع الجديد بكل مفرداته ومصطلحاته: (السور، الحارس، المدرس، التلاميذ، الفصل، الطابور، الخروج المبكر.. وغيرها) من المستجدات التي تطرأ على حياة الطفل الذي تعود في بيته على حياة يكون فيها مقبولاً بكل حالاته وتصرفاته جائعاً كان أم عطشانَ، نائماً أم مستيقظاً.. في المدرسة قد لا يكون مقبولاً لدى معلمه أو زملائه والسؤال
-هذه الظاهرة هل هي رهبة تزول أم مرض يتطلب العلاج؟!
*******
وللإجابة عن هذا السؤال يقول الدكتور لؤي خليل (مهتم بعلم النفس والتحليل النفسي): إن بكاء الطفل من المدرسة شيء طبيعي، لأنها مكان جديد يجهله الطفل بكل تفاصيله.. ولأنها المكان الذي يفصله عن أمه)، وهذا يذكرنا بحالة النكوص الذي تحدّث عنها (د. أوتورانك) في كتابه (صدمة الولادة) إذ يقول: (في كل مرة يتعرض الطفل لخطر خارجي تعاوده رغبة شديدة في النكوص إلى حضن أمه).
المدرسة صدمة ولادة أخرى
ويضيف د. لؤي: المدرسة هنا هي الخطر الذي يهدد التحام الطفل بأمه وإبعاده عن حضنها ساعات عديدة بشكل يومي.. ولكن هذه الرهبة لا تلبث أن تزول بمجرد منحه الأمان وقدرة المدرسة على تقديم نفسها للطفل على أنها الأم في حنانها وعطفها وبشاشة وجهها، هذه العلاقة العاطفية الرحيمة بالأطفال هي التي ستسرع في زوال الرهبة.
المبالغة في المشكلة تجعل منها مرضاً
كما يؤكد الأستاذ حسين الحسن، الباحث الاجتماعي على أن البكاء رهبة تزول شريطة ألا تبدي الأسرة قلقها الكبير من هذه القضية، فالمبالغة في تصوير أي أمر قد يؤدي إلى صعوبة التغلب عليه، بل يمكن أن يؤدي إلى تضخيم المشكلة وتحويل البكاء من رهبة عابرة إلى مرضٍ أو اكتئاب يشكل خطورة كبيرة على الطفل ومستقبله.
الدلال الزائد يعقّد المسألة
أما الدكتور خالد بكر فيرى أن حالة البكاء قد تكون مرضية إذا نتجت عن ارتباط الطفل بالبيت بصورة مبالغ فيها نتيجة لتعلقه بأمه أو بتدليلها الشديد له، تتطلب التدخل المباشر من قبل الإخصائيين النفسيين للوقوف على أسبابها، ثم وضع العلاج المناسب لها.
المدرسة كابوس يؤرق الطفل
وعن الأسباب الكامنة وراء بكاء الأطفال المستجدين يقول الأستاذ عبدالله الصبيحي (مدير مدرسة): (إن السبب الأول هو ابتعاد الطفل عن الأهل حيث تنتاب الطفل مخاوف عديدة من الجو الجديد، وقد يرجع إلى الصورة السلبية التي كونها الطفل عن المدرسة منذ الصغر سواء كانت هذه الصورة وصلته عن وسائل الإعلام أو الاخوة، وقد يكون الوالدان هما من غرس لديه هذه الرؤية القاصرة للمدرسة بتصويرهما للمدرسة على أنها سلطة تتحكم بسلوك الطفل وتحد من حريته لأنهما قد يرددان على مسامعه عبارات لها أثر خطير كتكرار: (متى تأتي المدرسة ونتخلص منك ومن إزعاجك؟! - غداً تدخل المدرسة، لا تلفزيون، ولا ألعاب.. ولا سهر.. ولا .....) إذاً المدرسة كابوس سيحرمه من كل هذه الأشياء الجميلة، فمن المؤكد عندها سيستقبلها ليس بالبكاء فقط وإنما بالكراهية المطلقة والرفض القاطع.
الخوف وقسوة الأهل زادت الطين بلة
أما الأستاذ جمال مبروك، فيرى أن الخلافات الأسرية والتربية غير الصحيحة أو التعامل مع هذه المشكلة بإحاطة الطفل بجو من الكراهية والقسوة عليه وتأنيبه مما يزيد المشكلة خطراً واتساعاً، إذ يتخوف الطفل من الجو الجديد في الوقت ذاته يشعر برفضه من قبل الأهل، وهنا تتحول هذه الرهبة البسيطة إلى اضطرابات نفسية لا تحمد عقباها.
الغيرة قد تكون سبباً في المشكلة!!
وقد يكون وجود الأخوة سبباً في حدوث مثل هذه الظاهرة، هكذا عبّر الأستاذ خلف المحمد (مدرس صف أول): (قد يكون السبب في بكاء الأطفال ورفضهم للمدرسة وجود أخ أصغر يحل محله ويستحوذ على اهتمام الأهل ورعايتهم في غيابه، وقد يكون الأخ الأكبر ونظرته السلبية للمدرسة وترديد ذلك علناً على مسامع الجميع سبباً في تكوين صورة غير صحيحة من المدرسة يقابلها الطفل بالبكاء والنحيب والرفض).
المدرسة.. عشوائية في الاستقبال
أما أم بدر (أم ومعلمة) فترى في كون الأسرة سبباً في هذه الظاهرة، تتفق مع الآراء السابقة وتضيف أن المدرسة أيضاً لها دور كبير في هذه المشكلة، إذ قد تعجز المدرسة عن تقديم نفسها للطفل بالصورة التي تجد قبولاً لديه بالرغم من إقامة الأسبوع التمهيدي، إلا أن بعض المدارس تنفذه بطريقة عشوائية تجعل الطفل يشعر بغربة موحشة خصوصاً إذا كان من النوع الانطوائي أو الخجول.
الإخلاف بالوعد يفقده الثقة
أما أبو عبدالله فيرجع السبب إلى أن بعض الآباء يعدون أبناءهم ثم يخلفون بالوعد ولا يأتون على الموعد، الأمر الذي يزيد مخاوف الطفل ويشعره برهبة كبيرة ويفقده الثقة بالآخرين خصوصاً إذا ما تكرر ذلك مرات عديدة، الأمر الذي يجعل من إقناع الطفل أمراً شبه مستحيل.
- أخي سبب بكائي- المدرس عصبي.. - قد ينساني أبي..
- الطلاب يسخرون مني..
وعندما توجهنا بسؤالنا لبعض الأطفال: (محمد تلميذ مستجد في الصف الأول) قال: (أبكي لأنني أخاف، فقد ينساني والدي في المدرسة ويخرج الجميع وأبقى بمفردي، أو قد تذهب أمي إلى بيت خالي ولا أجدها).
أما عبدالله فيقول: (يوجد مدرّس عصبي يصرخ على الأولاد وأخاف أن يضربني، وكثير من الأولاد خافوا منه).
أما خالد فيقول: (أولاد كبار يتضاربون ويمكن أن يضربوني، ويوجد ولد يضحك عليّ.. ).
أما سعود فيقول: (إنني نمت متأخراً ورأسي مصدع ويوجعني)، وراح يبكي..
الدواء الشافي بيد الأسرة
ولعلاج هذه الظاهرة يعقب الأستاذ عبدالله الصبيحي: (يمكن للأسرة معالجة هذه المشكلة باستمرار الحديث عن إيجابيات المدرسة مثل: ذكر أنواع الألعاب الجماعية التي يمارسها التلاميذ، المقصف وما يحتويه من حلويات وعصائر، وكذلك الثناء على المعلم ووصفه بالعطف والحنان والطيبة وأن لديه جوائز وهدايا للأطفال الذين يحبون المدرسة ولا يتغيبون عنها).
المهرجانات تكسر حاجز الخوف من المدرسة
أما أم عبدالعزيز (معلمة) فترى أن العلاج يمكن بإقامة مهرجانات قبيل افتتاح المدرسة بيومين أمام بوابات المدارس، ويشارك فيها الأطفال مع ذويهم وتقرأ فيها الأناشيد وتوزع الهدايا والحلويات مع الإعلان عن جوائز لمن يحضر إلى المدرسة مبكراً، ويقوم بتوزيع الجوائز معلمو الصف الأول أنفسهم.. وتؤكد أم بدر على تطوير فكرة الأسبوع التمهيدي ورسم الخطط والبعد عن العشوائية في التنفيذ..
(بشروا ولا تنفروا)
لوحة النجوم.. حصالة نقود تخفف من المشكلة
أما الأستاذ جمعة الجاسم، المعلم في الصف الأول، فينصح الأسرة بالهدوء في التعامل مع الابن وعدم نهره أو زجره مع تشجيعه وتحفيزه بالطريقة السلوكية المعتادة كعمل جدول توضح فيه نجوم أو نقود في كل يوم لا يبكي فيه الطفل يحصل على مبلغ ثلاثة ريالات على سبيل المثال، وفي نهاية الأسبوع تسلّم له اللوحة ويقوم بأخذ نقوده وجمعها ثم يصطحبه والده إلى مدينة الألعاب الترفيهية في إجازة نهاية الأسبوع.. وهكذا إلى أن يطمئن الأهل.
الوفاء بالوعد والصدق في الحديث
هما الحل
ويرى أبو عبدالله (ولي أمر طالب) أن العلاج يكون بالتعاون والتنسيق المسبق بين المدرسة والمنزل والتواصل المستمر بينهما، وكذلك يؤكد على الصدق في التعامل مع الطفل، فإذا ما وعدته يجب أن تفي سواء كنت أباً أو مدرساً فكلاهما قدوة.
ويرى أ. حسين الحسن الباحث الاجتماعي أن الحل الأشمل لهذه المشكلة لا يتم إلا بتعاون الأطراف جميعها: البيت والمدرسة والطفل.
فعلى الأسرة أن تعدّ الطفل جسمياً ونفسياً للمدرسة وذلك من خلال تعويد الطفل عادات صحية سليمة قبيل افتتاح المدارس تمكنه من التأقلم مع الجو المدرسي كالنوم مبكراً والاستيقاظ مبكراً، وكذلك تجهيز الوجبة التي يحبها ومنحه مصروفاً.. أما الإعداد النفسي فيرى الأستاذ حسين أن الأسرة يجب أن تصور المدرسة للطفل تصويراً إيجابياً وذلك من خلال سرد قصص يكون المكان الجميل فيها المدرسة، ومنبع الحب والأمان في القصة يكون المعلم، وبطل القصة يكون الطفل ذاته أو أحد أصدقائه.
- اصطحاب الأب للطفل إلى المدرسة قبل أيام من افتتاحها والتعرف على مرافقها وعلى المدرسين فيها.
- تقديم مكافأة للطفل مع عبارات الثناء على سلوكه وشجاعته وحبه للمدرسة وكذلك اصطحابه في عطلة نهاية الأسبوع في رحلة ترفيهية أو دعوته مع أقاربه إلى أحد المطاعم على أن يقوم بدفع تكاليف الدعوة لغرس الثقة بنفسه. ويعقب الأستاذ حسين على أن دور المدرسة في العلاج كأن تقيم المدرسة حفل استقبال تتخلله ألعاب رياضية يشارك بها الأطفال (الأسبوع التمهيدي) بصورة أكثر تنظيماً وحصر الحالات التي يتكرر منها البكاء، وتكليف المرشد الطلابي باصطحابهم وتوزيع هدايا لهم أو عرض برنامج تلفزيوني محبب لديهم. كما يؤكد الباحث على حسن انتقاء مدرسي الصف الأول القادرين على النزول إلى مستوى الأطفال والدخول إلى قلوبهم منذ اللحظات الأولى للدراسة.
|