لا شيء أعتى من الفراق.. ولا أنكى من الوداع، لا شيء يعدل حب الأب، ولا لمساته الحانية.. ولا حتى بسماته المناسبة لأبنائه .. كنتُ قبل حقبة أسعد - كأي طفل - بأن لي والداً يحنو عليَّ.. ويمسك بيدي.. ويضمني إلى صدره.. ويشتري لي أبهى الحلل.. إذا ضايقني أحد شكوت إليه - وإن تفوقت في اختبار هرولت مسرعاً إليه .. وإن اختلجت في جوفي العواطف بثثتها بين يديه. حينما يقول أقراني: فعل والدي، قال والدي، ذهب والدي، فأنا أشاركهم بمثل ما يقولون.. وأسامرهم بحديث كالذي يذكرون. وها هو والدي يترجل قبل أن تكتحل عيناي بكثرة مسامرته.. وهدأة الجلوس معه .. رحل والدي وأنا في مرحلة بين الطفولة والرجولة، رحل وهو يعقد الآمال تلو الآمال - ولن يخيب له ظن بإذن الله - فارق والدي الدنيا، وترك في فؤادي أوجاعاً لا تبددها ضحكاتي ولا تزيلها أحاديثي الماتعة مع الأقران والأصحاب، فرحيل والدي عني صدمة لا زلت أعاني منها. كل حي في الدنيا له موعد مع الأنين! وحينها لا بد للمكبوت من فيضان .. ولا بد للدمع من جريان! ولكن هذا كله لا يزيل هماً جاثماً في الصدر ولا غماً مستوحشاً به الفؤاد .. ففي كل بقعة مرّ عليها والدي.. موعد مع الذكريات .. وفي كل ركن من الأركان صورة مرسومة لمعالمه لا تفارق وجداني .. حين يأتي رمضان مثلاً يأتي معه بتفاصيل والدي بأوج حضورها .. فيشاركني والدي في الفطور، والسحور، وصلاة التراويح والقيام.
حينما ينادي داعي الفلاح بأن فاز الصائمون بفطرهم ألحظك يا والدي - وكأني بقربك تقول: اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت .. وحينما أنظر لوجه الحقيقة.. أجدك غائباً عني، أجد الثرى قد واراك.. والقبر قد غطاك. فتنزل من عينيّ الدموع التي أخفيها عن بقية أهلي حتى لا أنكأ فيهم جرحاً غائراً. وأتمتم ب(اللهم اغفر له وارحمه وارفع درجته في المهديين)، وحينما تأتي الصلاة كنت أجلس عن يسارك .. لكني الآن لا أجدك وإنما أجد شخصاً آخر حل محلك.. فأبتلع الغصص الحرَّى، التي أنهنهها حتى لا تستحيل إلى دموع جارية. أبٌ يصطحب ابنه للمسجد، وابن يضاحك أباه .. وآخر يتحدث عن أبيه بين أقرانه .. وأنا أذهب إلى المسجد دون أب. وأضاحك نفسي لأنني دون أب.. وأمتثل الصمت بين الأقران لأنني أيضاً دون أب.. أب يتصل على ابنه ويقول: يا فلان اذهب لكذا، واصحب معك كذا.. فأخرج جوالي علَّ أبي يحادثني، فلا يحصل من هذا شيء - كنت في الأعياد ألبس فرحتين؛ فرحة العيد وفرحتي بقربك.. بعطرك الفواح.. وبأناقتك المعهودة .. وحينما ينتهي الخطيب من خطبة العيد.. أقوم لأضمك.. لأقبِّل رأسك.. مهنئاً لك بالعيد، وطالباً من الله الأجر المزيد.. فتبادلني الشعور.. وترسم بسمتك التي لا أنساها على وجهك فينشرح صدري.. وأحس بالدفء والأمان .. والآن يا والدي أذهب لصلاة العيد لوحدي.. أتذكر حينما كنت جوارك - ينتهي الخطيب، لأهبّ مسرعاً أبحث عنك.. وأفتش في أرجاء المصلى.. لا أجدك، ولا أرى لك أي أثر.. أين أنت لأهديك القُبل .. أين أنت لأطبع الحب على رأسك.. أين أنت؟ لكنك لا تجيب.. أذهب إلى المقبرة، لأراك هناك تحت الأطباق.. لأراك وقد علاك التراب.. لأراك وقد أحطت بين حجرين.. فأجثم على ركبتي باكياً وألثم قبرك.. وأبكي وأصيح.. وأقول: عيدك مبارك يا والدي فهل تراك تجيب!؟
|