لاحظت النشاط الدؤوب في الفترة الأخيرة لمعالي وزير الزراعة الدكتور فهد بن عبد الرحمن بالغنيم، وجولاته المستمرة في مناطق المملكة المختلفة، والتقاءه بالشريحة الأهم والمعنيين بالحركة الزراعية، وهم المزارعون. وزير الزراعة يحاور بكل تواضع الشريحة المهمَّة والفاعلة في أداء وزارته، وهذا دليل أكيد على نجاح سياسة الدكتور بالغنيم وتخطيطه الاستراتيجي، وقد عرفته أستاذاً لي بكلية الهندسة بجامعة الملك سعود؛ فقد كان يحس بالآخرين، وهذه ميزته المهمَّة.. كان يتكلم من المواقع ويخاطب الطلاب واحداً تلو الآخر بأسمائهم بكل تواضع وحرص، ويحرص على فهم كل واحد منهم.. يخاطبهم بودٍّ ويكسر الحاجز الرهيب بين الأستاذ والطالب.. وها هو الآن يكسر الحاجز الرهيب بين المزارع ووزارة الزراعة، ويندمج مع هموم المزارعين، ويستمع إلى همومهم وشجونهم، لم يجلس في برج عاجي.. ولقد كان لقاؤه مع مزارعي منطقة القصيم لقاءً حميمياً ساخناً.. جاء على وقع تساقط حبات الرطب من نخيل القصيم.. وفي موسم (جذاذ) التمور.. وأنصت بكل اهتمام لمطالب المزارعين.. وكان الأهم في كل ذلك هو محاولته تهدئة انفعال المزارعين حول ارتفاع أسعار القمح وقروض البنك الزراعي. والنقطة الأهم هي في رأيي ما أثير حول التمور وتسويق وإنتاج التمور، فالتمور هي السلعة الأهم التي يجب زيادة إنتاجها.. حتى تكون داعماً للاقتصاد الوطني، ومرتكزاً للأمن الغذائي.. فالقمح يمكن استيراده في ظل انخفاض أسعاره ورفع الدعم الحكومي عنه وتسبِّبه في استنزاف المياه. أما التمور والنخيل فهي قليلة الاستهلاك للمياه، بخلاف ما أشيع عنها، ولقد سُررتُ حين ذكر الدكتور بالغنيم أن هناك خطة للبنك الزراعي لتشجيع زراعة التمور؛ فقد عاش العربي في جزيرة العرب وعاشت معه النخلة تلك النبتة الممشوقة القوام.. ذات الفرع المدود في السماء والأصل الثابت.. هذه الشجرة هي رمز شموخ العربي وعزته.. نراها في كل صقع من العالم العربي.. ترمز إلى العربي وإلى عزته.. شجرة من أقوى الشجر وأكثرها تحملاً للحرارة والتصحُّر.. نراها في لواهب القيظ خضراء سامقة في الصحارى.. أثنى عليها الله جل جلاله في كتابه الكريم.. مع ما تتلقَّاه من عطش وسموم ورياح، إلا أنها تعطي ثمراً لذيذاً ولا أطيب.. وتعطي عطاءً يفوق ما ننفقه عليها، تعطينا التمور والحلوى والرطب.. والحطب والسعف الذي يصنع منه الحصر.. حتى إذا أعطيناها ماءً مالحاً وزرعناها في السباخ والصحارى المجدبة الجافَّة.. إنها نخلة العرب التي يجب أن يقوم عليها اقتصادهم.. إنها النخلة التي يجب أن يلتفتوا إلى زراعتها.. فهي غذاؤهم، وهي زادهم.. وهي مالهم.. وهي اقتصادهم.. ولا غرو في ذلك؛ فإن جزيرة العرب وبالتحديد جزيرة دارين أو تاروت ومنطقة الخليج العربي هي منشأ النخلة التي انتقل منها النخل إلى مختلف أنحاء العالم.. بل إن بعض الدول تعتمد على النخلة في اقتصادها.
المملكة أصبحت تحتل المركز الأول في إنتاج وزراعة التمور والنخيل، جاء ذلك في كتاب (طبائع النخيل ومعاملاتها)، تأليف أديب حائل سعد بن خلف العفنان؛ حيث ذكر ملخصاً لبحث لخبير عراقي قُدِّم لندوة النخيل العالمية الثالثة المنعقدة بجامعة الملك فيصل بالأحساء خلال الفترة من (17-20) يناير عام 1993م، ذكر فيه أن زراعة النخيل في المملكة سجلت معدل نمو ثابتاً بلغ 10%، في حين لم تتجاوز أعلى معدلات النمو في الأقطار العربية الأخرى 2%، بل إن العراق الذي كان يحتل المرتبة الأولى في زراعة النخيل وإنتاج التمور تراجع إلى الوراء بسبب عوامل عدم الاستقرار التي مرَّ بها. ويقدَّر عدد النخيل حالياً في المملكة بحوالي 20 مليون نخلة منتجة تتوزَّع بين مناطق المملكة المختلفة، وأشهر مناطق المملكة في إنتاج التمور: الأحساء - القصيم - المدينة - بيشة - حائل - الجوف - القطيف - الخرج - سدير - الزلفي. وهذه المناطق تنتج أنواعاً مختلفة من النخيل، أشهرها (السكري - البرحي - الشقراء - المكتوحي - أم الحمام - السلج - الصقعي - الرزيزاء - الونانة - الروثانة - نبتة علي - أم كبار - الفنخاء - الحلوة - نبتة سيف، وغيرها من أنواع التمور التي تشتهر بها كل مناطق المملكة.
وأريد أن أتناول اقتصاديات زراعة النخيل من عدة محاور:
أولاً: المملكة العربية السعودية تحتل حالياً المركز الأول في زراعة النخيل وإنتاج التمور.. وحسب التقديرات فإن لدينا حالياً 20 مليون نخلة وبمعدَّل زيادة سنوية كبيرة (10%)؛ أي مليوني نخلة (نسبة إلى 20 مليوناً). ولنقل إن الزيادة بمعدَّل مليوني نخلة سنوياً، وهذه نسبة كبيرة جداً. وهذه الزيادة ربما ترجع إلى أن الطلب على التمور ثابت أو يزداد على الرغم من زيادة الإنتاج (أي أن الطلب أكثر من العرض).
وأعتقد أن العرض لن يتمكن من سد حاجة الطلب حتى لسنوات قادمة، وذلك بسبب الاستهلاك الكبير للتمور، وذلك لأن المملكة تحتل المركز الأول في استهلاك التمور؛ حيث بلغ متوسط نصيب الفرد السنوي من التمور 40 كيلوجراماً (كتاب النخلة العربية- تأليف عبد الرحمن بن زيد السويداء). ويرجع ذلك إلى أن التمور أصبحت جزءاً من عادات وتقاليد العربي في الجزيرة العربية، فلا غنى عنها في غذائه اليومي، كما ارتبطت بالمناسبات الدينية كرمضان؛ حيث إن أفضل ما يفطر عليه الصائم هو التمر.. وزيادة استهلاك التمور في المملكة لا شك أنها ظاهرة صحية في مواجهة ما تنتجه المصانع من حلويات وسكريات. وظهور أساليب حديثة لحفظ التمور كالتبريد في الثلاجة التي تحفظ التمر طازجاً على مدار العام سهل أساليب حفظه وزاد من الإقبال عليه حتى بين الطبقات العليا في المجتمع.
وهنا يجب أن نلاحظ أن متوسط إنتاجية النخلة في المملكة العربية السعودية يقرب من (36.6 كيلوجراماً) ونصيب الفرد السنوي من التمور استهلاكاً = 40 كيلوجراماً. ويجب أن نلاحظ أن عدد سكان المملكة يقرب من 20 مليون نسمة، وعدد النخيل 20 مليون نخلة؛ أي أن عدد السكان = عدد النخيل. ولنقل إن هناك نخلة لكل فرد من السكان.. معنى هذا أنه إذا لم يزدد عدد النخيل فسيكون هناك عجز في حاجة المملكة من التمور يُسدُّ بالاستيراد.. وهذا غير منطقي أن دولة منتجة للتمور تقوم باستيراده، فما بالكم إذا أردنا أن نكون دولة مصدِّرة للتمور تعتمد على التمور في اقتصادها.
ثانياً: قد يقول البعض إن زيادة عدد النخيل سيكون كارثة على المياه الجوفية، ولكن نقول له: إن النخلة -ولله الحمد- شجرة صحراوية تتحمل العطش في الصحارى اللاهبة، وهي ليست بحاجة إلى السقي بشكل يومي أو حتى أسبوعي.. فهي ليست كالخضار.. أو القمح أو الأعلاف التي تحتاج إلى سقي يومي وبمياه وفيرة.. إن الاقتصاد في استهلاك المياه شيء مطلوب، ولكن يجب أن نعمل بقاعدة لا ضرر ولا ضرار.. أي لا نضرُّ بمخزون المياه الجوفية.. ولا نضرُّ بحاجة السوق من التمور.. إن النخيل ليست متهمة باستهلاك كميات كبيرة من المياه.. بدليل أنها تعيش في الدرع العربي الشحيح المياه.. وما تمور المدينة الكثيرة اللذيذة إلا دليل على ذلك.. نرى بساتين النخيل شامخة في كل بقعة من الدرع العربي.. بل وتعيش في شغاف الجبال، ويمكن أن تزرع زراعة (بعليَّة)؛ أي على مياه الأمطار فقط.. وهذه النخيل تنتج تمراً من أطيب أنواع التمور اعتماداً على مياه سطحية فقط من مياه الأمطار التي يمكن استخراجها من آبار سطحية لا تصل إلى المياه الجوفية وتغذي هذه النخيل صيفاً.
وعلى هذا فإنني أرى أن يتم تشجيع زراعة النخيل في الدرع العربي؛ (حيث لا خطر على مخزون المياه الجوفية غير المتجددة)، وحيث تحمّل النخيل للعطش وأيضاً جودتها في هذه المنطقة واستغلال مياه الأمطار التي تذهب هدراً في صحارى الدرع العربي أو تتبخر في الصيف؛ حيث إنها مياه قليلة العمق. ولكن مهلاً حتى لو فرضنا أن جميع النخيل لدينا (20 مليون نخلة) تعتمد في ريها على المياه الجوفية غير المتجددة فإن استهلاك النخيل للمياه (ما تحتاج النخلة فعلاً الذي يجب أن يتم تطبيقه) هو جزء قليل لا يمثل شيئاً بالنسبة للاستهلاك السنوي للزراعة، ويمثل 5% تقريباً من استهلاك المياه لأغراض الزراعة. وقد يسأل البعض: كيف ذلك؟ نقول له: ذكر الخبير الزراعي (Harris) عام 1955م أن زراعة النخيل في المملكة العربية السعودية (القطيف) تحتوي على نخيل متقاربة وبمعدَّل حوالي 250 نخلة في الهكتار يتم ريها بحوالي 13250م3/ سنة؛ أي أن نصيب النخلة السنوي يجب أن يكون حوالي 53م3/ نخلة. وهذه الحصة هي ما تحتاجه النخلة فعلاً للنمو المتوازن بدون زيادة أو نقص. ونلاحظ هنا أن الري الزائد للنخلة ذو أثر سلبي على التمور التي تحتوي على نسبة كبيرة من الماء لا يمكنها النفاذ من الثمرة، فتحبس بين لب التمور وقشرها مسببة ما يسمى ب(التجليد).. ولو أجرينا حساباً بسيطاً لما تحتاجه 20 مليون نخلة سنوياً من المياه لوجدنا أنه 20 مليون نخلة * 53م3/ سنة = 1060 مليون م3/ سنة؛ أي ما يزيد قليلاً على مليار م3 من المياه.. ولكن الاستهلاك السنوي من المياه لأغراض الزراعة 18718 مليون م3 (الطخيس، 1997م). ونسبة استهلاك النخيل لا تمثل إلا 5% تقريباً من هذه النسبة التي يذهب أغلبها للقمح والأعلاف.
مع أهمية ما سبق الإشارة إليه من اعتماد النخيل وجودتها على مياه الأمطار فإن الأنواع الفاخرة من التمور هي ما يعيش على مياه الأمطار التي يجب دراسة استغلالها لزراعة النخيل.
ثالثاً: حسب بعض المصادر فإن الاستثمار السنوي في التمور يقرب من 14 مليار ريال، وهي قطاع منتج ومفيد للاقتصاد؛ حيث إن التمور يستهلكها كل منزل بخلاف القمح أو الأعلاف؛ حيث إن القمح تحتاجه المخابز فقط. أما التمور فهي بحاجة إلى تسويق في أسواق المدن، ويمكن أن يكون هناك محلات متخصصة في بيع وتخزين التمور توظف شباباً سعودياً، وبالتالي يتكون قطاع زراعي منتج ومفيد للاقتصاد الوطني وذو أثر محدود على مخزون المياه الجوفية.
والذي أقترحه هو تكوين شركات لتسويق التمور في كل منطقة تقوم بجنيها وحفظها وتبريدها وتنظيفها وخزنها بطرق فنية وتسويقها، وبالتالي تحريك قطاعات أخرى وتوظيف مزيد من الشباب السعودي في هذا القطاع.
إنني أتمنى أن تلتفت وزارة الزراعة لهذا الأمر بالتنسيق مع وزارة المياه، ويمكن عقد مؤتمر وطني حول النخيل لبحث مستقبلها ودورها في الاقتصاد الوطني.
المهندس عبد العزيز بن محمد السحيباني
البدائع |