كانت مباشرة كل من بلاد الشام، ومصر، للنهضة في العصر الحديث سابقة نوعا ما على عموم العالم العربي الذي كان يرزح في سبات وظلمات الباب العالي العثماني، فبالإضافة إلى عراقة التراث الفكري الذي كان في كل من الشام ومصر نظرا لكونها مراكز حضارية قديمة، جميع هذه العوامل أسهمت في تكريس تلك المراكز الحضارية، بحيث شكلت بؤرا مركزية وما سواها من أقطار عربية عبارة عن أطراف تدور في فلكها على المستوى الحضاري والثقافي والفكري.
وظلت دول الخليج إحدى النجوم النائية التي تدور في تلك الأفلاك صاحب هذا جمع وافر من أبناء المراكز من شوام ومصريين أسهموا في النهضة الحضارية التي كانت تتطلبها دول الخليج في مرحلة نهضوية سابقة.
وبالتالي انتقلت للمنطقة جميع التيارات الفكرية والسياسية التي كان تشتعل هناك، من قومية و(إسلامية مسيسة) ويسارية، وسوى ذلك من النتاج الفكري في المراكز الحضارية، بشكل كان في كثير من الأحيان يتجاوز هموم المنطقة الخاصة وطموحاتها ومتطلباتها وخططها التنموية والحضارية، ويتعلق بالشعارات التي تروجها المراكز حتى لا يحل عليها غضب المراكز وتتهم بالخيانة والعمالة والإمبريالية والإقليمية وما هنالك من قوائم من التهم الجاهزة ضد من يغرد خارج السرب، ولعل غزو الكويت كان هو السكين الحادة التي شقت مدى الرؤيا الغائم أمام سكان المنطقة، وأخرجت لنا منظورا مغايرا للرؤيا، تبدت فيه المنطقة وأهلها دون ذلك الطنين الشعاراتي الذي أصم الآذان لسنين طويلة، أنا أعلم بأن هذا النوع من الطرح لن يروق للكثير ممن تربوا في الخيمة القومية، أو خيمة الإسلام المسيس، والذين ما برحوا يدبجون طروحاتهم الإنشائية والخطابية بكل الحماس الذي يجعلهم منقطعين عن المرحلة، وعن متطلباتها، وعن الشكل الجديد للتكتلات العالمية، بحيث لم تعد تكتلات شعارات وخطابات نارية حارقة، وعلامات رضى وعلامات نبذ وإخراج من السياق، بقدر ما تحولت إلى تكتلات مصالح متكاملة متناغمة منسجمة وفق أطر وأهداف موحدة رامية إلى نهضة شعوبها وحلمها التنموي والحضاري.
كم أتمنى أن يخفت طنين تلك النغمة الصدئة التي ما برحنا نسمعها في الإعلام العربي نغمة مظاهرات الخمسينات والستينات، لا سيما وأن المصائب والفواجع والأهوال التي مرت على المنطقة أثبتت بشكل قاطع أن جميع تلك الطروحات منبتة عن واقعها، وفاقدة للواقعية وخطط العمل، بل كانت طوال الوقت تلعب على الجانب العاطفي والوجداني للجماهير المغلوبة على أمرها.
|