أمانة القلم تقتضي عدم تجاوز الحقيقة، كما تقتضي عند ذكرها عدم احاطتها بزخارف من المبالغة، أو سلبها بشيء من التجاوز...
كان هذا محور نقاش مع احدى المثقفات وهي تتساءل:
لماذا يتعرض بعض المثقفين العرب للسخط من قبل قرائهم ومشاهديهم ومستمعيهم، في مجتمعهم الصغير والكبير؟!
فقول الحقيقة لا يتطلب أن يشعر المثقف بأنه بطل، وألا أحد يرقي إلى سُدته...، بل البطولة حين يكون قادرا على كبح جماح نزواته البشرية تلك التي تحرِّضه أو تزيِّن له أن يستشعر في ذاته فوقية أو خصوصية تميزه عن الآخرين، وبذلك فإنَّ ما يأتي عنه يتوقع أن يسلم به الجميع.
إنَّ دور المثقف في مجتمع اسلامي يستدعيه أن يتخلَّق بخلق دين هو ينتمي إليه، والدين يتطلب المناصحة في غير اجتراء، والصدق في غير ايذاء..
إذ (ليس منَّا من لم يوقَّر كبيره أو يرحم صغيره)، وتوقير الكبير لا يعني الخنوع ولا التذلل ولا المداهنة ولا النفاق، بل يتطلب ما سنته الشريعة من الاحترام والطاعة والكلمة السواء، والتآزر والمعروف والرفق والتواضع وتحري الأمانة والصدق في القول والاخلاص في العمل وإبطان النوايا الحسنة والتفكير في العمل الجاد فالمسلم لا يكذب، ولا يظلم، ولا يتجسس، ولا يبهت...
بل لا يحقد ولا يظلم حتى من يعاديه.
كانت تقول: كثيراً ممَّا أقرأ أضعه على طاولة التحليل، ذلك لأنني أعرف فئة من الناس تكتب لمجرد الشهرة، وتناقض من أجلها، وتلهث لها لذلك ترتكب فيما تكتب تجاوزاً لحدود الدقة والصدق وتوهم من يقرأ لها بأنها تقول الحقيقة. فكثيرٌ من الحقائق طُمس على أيدي هؤلاء الكتاب، وغالبية ما عولج من الأحداث ليس فيه وجه لحق ولا طعم لصدق، والقارئ الذي يتابع يلاحظ التناقض في أوجه، ويشمُّ رائحة عدم المبالاة بقدراته على اقتناص البُعد الذي يرمي إليه الكتَّاب..
وتساءلت المثقفة الكريمة: كم صحيفة عربية تصدر فجر كلِّ يوم في الدول المسلمة؟
وكم قناة فضائية تبثُّ ما تخطُّه أقلام معدِّي برامجها وأخبارها؟! وكم إذاعة تطلق أصواتاً تتحدث العربية؟!
قلت: وكم هي نسبة الصدق، وأين تكمن (الحقيقة) فيما ينشر ويبثُّ، ويُسمع؟
إنَّ وهم المثقف الكاتب لأيٍّ من هذه القنوات بأنَّ ما يقوله مصدَّقٌ بشكل مطلق، ولذلك يجوس في حمى الحقائق كيفما يشاء لم يعد السَّاتر له عن بلوغ قارئيه ومستمعيه ومشاهديه حقيقة ألا بطولة الآن إلاَّ لمن تثبت أمانته، وصدقه، وتجرُّده، وتآزره، وإخلاصه لقضية واحدة يمثلها قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(المسلم للمسلم كالبنيان)، وأنَّ قضية الجسد الواحد الذي إذا شكى منه عضو تداعت له الأعضاء كلُّها لا بد أن ينطلق المثقف لها من جسده الخاص ومن ثمَّ إلى جسد الأمَّة كلِّها كي تستوي الحقيقة بين يديه قائمة.. وإلاَّ فما الذي هو عليه حال الأمة الآن؟!
|