تلقيت عدة اتصالات، كما قرأت في منتديات الإنترنت عدة مقالات، علاوة على بعض الردود في صفحة (عزيزتي الجزيرة) أغلبها تعترض على مقالي (بيان الـ26 وفقه المآلات) الذي نشر في ثاني أيام عيد الفطر المبارك. وأود أن أؤكد هنا أن الردود على المواضيع التي أتعرض لها تسعدني كثيراً، وتشعرني بمدى تفاعل القراء مع ما أكتبه من موضوعات، بغض النظر عن رأيي وموقفي الشخصي تجاه هذه الردود أو لغتها أو مدى منطقيتها. فليس هناك أسوأ على الكاتب من أن يشعر أنه يكتب في صحراء يكتنفها الصمت من كل جانب. إضافة إلى أن النقاش والحوار أمور هي اليوم من أساسيات الثقافة المعاصرة، فرب رأي آخر يضيف إلى حصيلتك المعرفية ما أنت في أمس الحاجة إليه.
أعود إلى موضوع المقال آنف الذكر فأقول: يجب بدءاً التفريق بين أمرين: ممارسات القوات متعددة الجنسيات، وعلى رأسها القوات الأمريكية، على أرض العراق من جهة، ومن جهة أخرى مدى حاجة العراق كدولة وكنظام جديد لهذه القوات لإعادة بناء الدولة من جهة أخرى. هذه نقطة مفصلية غاية في الأهمية.
فالممارسات الوحشية التي تمارسها القوات الأمريكية في العراق لا يمكن لبشر أن يقبلها، ناهيك عن مسلم. فما جرى في سجن أبو غريب، أو في بعض مساجد الفلوجة، من مشاهد دموية مفجعة هي بكل المعايير مشاهد لا تمت للإنسانية، ناهيك عن القيم الحضارية، بأي صلة، هذا فضلاً عن أن مثل هذه المشاهد ستكرس حتماً حالة البغض والعداء الشديدين للأمريكيين على مدى أجيال لدى الإنسان العربي والمسلم. وليس لدي أدنى شك في أن (عقلاء) الأمريكيين يدركون ذلك تمام الإدراك. ويعرفون أنهم يخسرون كثيراً نتيجة لهذه الممارسات اللاإنسانية. لكن الحرب هي الحرب أولاً وأخيراً، فلا يمكن أن تكون إلا بشعة وكريهة، فليس ثمة حرب شريفة على الإطلاق. غير أن السؤال الأهم الذي يجب أن يكون محور حوارنا: هل العراق في حاجة إلى هذه الحرب على الإرهاب، ولترسيخ جذور الدولة العراقية أم لا؟ وهذا بصراحة ما وجدت أن أغلب الردود التي تناولت المقال قد تجاهلته.
وهناك من يصر على أن الحرب على الإرهاب، هي في حقيقتها حرب على (المقاومة) التي هي حق من حقوق العراقيين أمام الاحتلال الأمريكي لبلدهم. وسأتفق معهم - جدلاً - على أنها بالفعل مقاومة، وأنها واجب على العراقيين، وأنها - أيضاً - ضرب من ضروب جهاد الدفع. ليثور السؤال الذي لم أجد واحداً من الردود قد تطرق إليه: وماذا ستكون نتيجة هذه المقاومة في المحصلة؟. هنا لا يمكن أن نلغي احتمالية التقسيم والتشرذم. فإذا كانت هذه هي النتيجة المتوقعة، فما الداعي إذن للمقاومة؟.
الأمر الآخر، والذي لا يمكن أن نتجاوزه عند قراءتنا للواقع هناك، هو (حقيقة) أن الخاسر الأول من احتمالية تقسيم العراق هم (السنة العرب) تحديداً. فمنطقتهم هي منطقة وسط العراق، وهي من ناحية الموارد الطبيعية، أو البترول تحديداً، من أفقر أجزاء العراق فالتقسيم يعني أن هناك ثلاث دول سيؤول العراق المفتت إليها: كردية مع أقلية تركمانية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، أي أن التقسيم يعني أن السنة العرب هم أول الخاسرين. وهذا ما يفسر لنا موقف أهل السنة العراقيين - من غير البعثيين بالطبع - من هذه المقاومة بسبب أنهم يعون أن استمرار هذه المقاومة غير المسؤولة ستكون عواقبها وخيمة عليهم قبل غيرهم. ومثل هذا البعد الجيوبولوتيكي (الجغرافيا السياسية) لا يعني المقاومين لسبب بسيط مؤاده أن بواعث (مقاومتهم) تنحصر في إعادة (حزب البعث) إلى السلطة من جديد، ولسان حالهم يقول: أنا ومن بعدي الطوفان. أما تحالف القاعديين مع البعثيين فهو تحالف تكتيكي مرحلي، رغم تباين (الأجندات) بين هؤلاء وأولئك. يقول أبو مصعب الزرقاوي قائد القاعديين عن أهدافه في العراق: (إقامة الحكومة الإسلامية من القاعدة الجغرافية، التي أتاحها الله في العراق، ومن ثم الانطلاق منها إلى بقية بلاد المسلمين المستباحة بقوانين الكفر، وأنظمة الردة، لإقامة شرع الله ورفع راية الخلافة الإسلامية فوقها، واستئناف مسيرة الجهاد في سبيل الله). ومن نافلة القول أن دولة (طالبان) عراقية - كما يطمح الزرقاوي - لن تقف ضدها (بشراسة) الولايات المتحدة فحسب، وإنما العالم من أقصاه إلى أقصاه، بما فيها دول الجوار العراقي التي تختلف فيما بينها في أمور كثيرة بينما تتفق على الوقوف بمنتهى القوة في منع دولة كهذه من التشكل ثانية في العراق بعدما أدركوا مدى خطورتها على أمنهم واستقرارهم عندما تشكلت في أفغانستان.
وقبل أن أختم أقول: أعي تماماً مدى تأثير المشاهد المؤلمة التي تثيرها لدى المسلمين الحرب بين ما يسمى المقاومة العراقية وبين القوات متعددة الجنسيات وعلى رأسها الولايات المتحدة غير أن هذه المشاهد مهما كانت قاسية ومؤلمة ودامية يجب أن لا تنسينا حقيقة الأمور هناك، ومدى تأثيرها على العراق الجديد وتبعاتها على دول المنطقة. وهذا بيت القصيد.
|