* مكة المكرمة - عمار الجبيري:
دعا إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور/ سعود الشريم المسلمين إلى تقوى الله سبحانه ومراقبته فيما نأتي وفيما نذر لأن بالتقوى تحصل الولاية وتزف البشرى.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها يوم أمس في المسجد الحرام إن من أعظم الفتن التي تعاني منها جملة من المجتمعات المسلمة في عصرنا الحاضر هي فتنة غياب الحق ولبسه بالباطل وفقدان هيمنة المرجعية الصريحة الصحيحة في إبداء الحق ونصرته أما الباطل وإظهاره على الوجه الذي أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون فتون أو تردد من إملاق أو خشية إملاق أو تأويلات غلبت عليها شبهات طاغية أو شهوات داعه مما يجعلها سببا رئيسا في تعرض صورة الإسلام وجوهره في المجتمعات المسلمة لخطرين داهمين أحدهما خطر إفساد للإسلام يشوش قيمه ومفاهيمه الثابتة بإدخال الزيف على الصحيح والغريب الدخيل على المكين الأصيل حتى يغلب الناس على أمرهم في هذا الفهم المقلوب ويبقى الأمل في نفوسهم قائما في أن تجيء فرصة سانحة ترد الحق إلى نصابه وهم في أثناء ذلك الترقب يكونون قد أشربوا في قلوبهم الاعتقاد الفاسد بأن ما يفعلونه من هذا البعد والقصور في التدين والخلط بين الزين والشين هو الإسلام بعينه فإذا ما قامت صيحات تصحيحية تدعوهم إلى الرجوع إلى المنهج الحق والتمسك بالشرعية الخالدة كما أنزلها الله أنكروا عليهم ما يدعون إليه واتهموا الناصحين بالرجعية والجمود والعض على ظاهر النصوص دون روحها وأغوارها.
وأردف يقول: كذا يزعم دعاة التلبيس والتدلس ولسان حالهم عند نصح الناصحين ينطق بقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}.
وأضاف الشيخ سعود الشريم يقول: وأما الخطر الثاني فهو أن هذا التلبيس والتضليل ينتهي بالمسلمين إلى الفرقة التي يصعب معها الاجتماع إذ كل طائفة ستزعم أن لها منهجها الخاص بها فتتنوع الانتماءات إلى الإسلام في صور يغاير بعضها بعضا كالخطوط الممتدة المتوازية التي يستحيل معها الالتقاء حتى أننا لنرى بسبب مثل ذلك إسلاما شماليا وإسلاما جنوبيا وإسلاما شرقيا وآخر غربيا وإنما الإسلام شرعة واحدة وصبغة ما بعدها صبغة ولكنه التضليل والتلبيس الذي يفعل بالمجتمعات ما لا تفعله الجيوش العاتية.
ومضى الشيخ الشريم يقول: إن المجتمع المسلم النقي التقي هو ذلكم المجتمع الذي تسود فيه أجواء النقاء في المنهج والوضوح في الهدف وسلامة السريرة في الحكم والفتوى والتربية والتعليم والأحوال الشخصية والمعاملات والشمولية في الالتزام بالإسلام على منأى وتخوف من تهميش أي من جوانبه التي شرعها الله أو الزج بها في ركام الفوضى والمساومة والتنديد.
وأكد أن كتاب الله جل وعلا مليء بالآيات الذامة لممتهني التضليل والتلبيس إما بنص الكلمة نفسها أو بمشتقاتها ومعانيها فقد عاب البارئ سبحانه على بعض أهل الكتاب مخادعة أقوامهم وشعوبهم حينما يدسون في شريعتهم ما ليس منها لتلقي الرواج والانتشار في صفوفهم وليظهروا لهم بمظهر المصحح المشفق وذلك حينما قال الله عنهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ {78} فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } إنه التدليس والمراوغة والتلبيس والخداع الذي يهلك المجتمعات عندما يدب في صفوفها وذلك من صفات الأمة الغضبية والأمة الضالة.
وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أن التلبيس والتضليل هو إظهار الباطل في صورة الحق وجعل الشين زينا والشر في صورة الخير وأن من المقرر في هذا الأمر الخطير أن من يعاقر لبس الحق بالباطل يجد نفسه مضطرا لأن يكتم الحق الذي يبين أنه باطل إذ لو بينه لأزال الباطل الذي كان يعاقره ويلبس به الحق وهذا أمر يغيب عن أذهان كثير من الناس في التعامل مع المطارحات التغريبية والمحاولات التسللية بدعوى التجديد والتصحيح والنهوض بالمجتمعات إلى مستوى مسايرة الركب واستجلاب كل ما يخدم ذلك من تأويلات وشبهات.
وبين أن للتدليس والتلبيس وسائل متعددة فإن مواقعي ذلكم لا يلزمون طريقة واحدة كما أنهم في الوقت نفسه ربما لا يتقنون كل طرقها ولذلك قد يلجأ بعضهم إلى التأويل الفاسد واتباع المتشابه من النصوص الشرعية التي تخدم مصالحهم وتوجهاتهم فيقعون في لبس الحق بالباطل وقد ذم الله من هذه صفته بقوله {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وهذا المسلك الخطير لا يمايز بين أصحاب الأهواء وأصحاب الزيغ والشبهات فحسب بل يمتد أثره إلى كل من آثر الدنيا على الآخرة في علمه وحكمه وتعامله كائنا من كان.
وأكد الشيخ الشريم (ثم إن أهل التلبيس والتدليس قد يسلكون مسلكا آخر هو من الخطورة بمكان أيضا وذلك من خلال كتمان الحق وإخفائه وعدم إظهاره للناس وإن لم يلبسوه بالباطل ثم هم يسوقون الحجج والشبه في إخفائه وخطورة إظهاره ويضخمون المفاسد المترتبة على إظهاره في مقابل تهوين المصالح المترتبة عليه لأن لبس الحق بالباطل وكتمان الحق أمران متلازمان وقد توعد الله أصحاب هذا المسلك بقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قوله لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحد شيئا وقرأ هذه الآية.
وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: فالواجب علينا التسليم بشريعة الله وأنها شريعة خالدة لا لبس فيها ولا زيف وهي صالحة لكل زمان ومكان وأن لا عزة للأمة إلا بها وأن الخذلان والخسار والبوار مرهون بمدى بعد المسلمين عنها ونأيهم عن سبيلها وعلينا معاشر المسلمين أن لا نغتر بالأطروحات المزوقة والتلبيسات المنمقة في تهميش الشريعة كما أنه ينبغي أن يكون موقف المسلم أمام أعاصير التضليل وزوابع التلبيس والتضليل أن يقول ما امتدح به الراسخين في العلم الذين يقولون أمام هذه الفتن المضللة والتشكيك بشرعية الله آمنا به آمنا به آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وأضاف يقول: إن لبعض المفسرين كلاما لطيفا عن قول الله تعالى {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} بأن إضلال الغير والتلبيس عليه لا يحصل إلا بطريقتين فإن كان ذلك الغير قد سمع دلائل الحق قبل ذلك فإن إضلاله لا يتحقق إلا بتشويش تلك الدلائل عليه وإن كان لم يسمعها من قبل فإن إضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها فقوله تعالى {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} إشارة إلى الطريق الأولى وهي تشوش الدلائل وقوله {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} إشارة الى الطريق الثانية وهي منعه من الوصول الى الدلائل وكلتا الطريقتين بلاء.
وأوضح أن اللبس انما يقع إذا غاب العلم بسبيل الحق وسبيل الباطل او بأحدهما كما قال الفاروق رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ومن هنا ذاعت مقولته المشهورة لست بخطب ولا يخدعني الخطب والخطب هو اللئيم المخادع
وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: فعلى المسلم أن يتقي ربه سبحانه وأن يكون في دينه على بصيرة فما فصل الله له الآيات الا لتستبين سبيل المجرمين وإذا ما كثر اللغط واللبس في أمر العامة وخلط الناس قولاً صالحا وآخر سيئا فليس إلا اللجوء إلى الله سبحانه لاستجلاب الهداية والوقاية من اللبس والتضليل كما جاء عند مسلم في صحيحه في استفتاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل بقوله: اللهم رب جبريل وميكائيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
واختتم الشيخ خطبته قائلا: فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال وان يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكرا وخديعة من الأقوال والأفعال وأن يعلم أن لله يوما تكع فيه الرجال أي تجبن وتضعف وتنسف فيه الجبال وتترادف فيه الأهوال وتشهد فيه الجوارح والأوصال يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه وما فيها من البر والصدق والاخلاص للكبير المتعال وتسود وجوه بما في قلوب اصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر والاحتيال هنالك يعلم المخادعون انهم لأنفسهم كانوا يخدعون وبدينهم كانوا يلعبون.
|