*******
الكتاب: LA PSYCHLOGIE DE L'ENFANT
المؤلف: Olivier Houdé
الناشر: PUF - Paris2004
********
قبل عشرين عاماً، كانت المنظومة التربوية تدق نواقيس الخطر. فقد نشرت منظمة اليونيسيف وثيقة مفادها أن أطفال العالم في خطر، ليس على المستوى الاجتماعي فحسب، بل وعلى المستوى التربوي والأمني على حد سواء. اليوم، في هذا العصر الرهيب، تبدو عبارة (الخطر) غير واضحة، ودلالاتها غير مطروحة بالشكل الكافي، على اعتبار أن الطفل يعاني من أخطر عصر يمكن تسميته بعصر العنف والحرب والموت. فكيف يمكن بناء طفل سليم في مجتمع غير سليم؟ وكيف يمكن الحديث عن مجتمع سليم في عالم غير سليم؟ إنها الحرب التي صارت تشتمل على كل ما له علاقة بالعنف، بالأذى، بالقتل العمد وعدم احترام حقوق الآخرين.
بهذه العبارات يقدم (أوليفييه حودي) كتابه: (سيكولوجية الطفل) الصادر عن منشورات (پوف) الفرنسية. لعل الذين يعرفون (أوليفييه حودي) يعرفون أنه يعد واحداً من أبرز الأخصائيين النفسانيين في فرنسا (دكتور في علم النفس التربوي)، بالنسبة إليه فإن الطفولة هي العالم الشفاف الذي يتعرض للتشويه بموجب الواقع الحياتي البشري بكل ميكانزماتيه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فلم يعد هنالك شيء اسمه (طفولة سليمة) لأن الحقيقة صنعت من (الأطفال) مشروع انكسار قادم، بكل ما تعنيه العبارة من معنى. مشكلة الراهن أنه يتعامل مع الأطفال كما كان عليه الأمر قبل عشرين عاماً مضت، مع أن المتغيرات الاجتماعية والفكرية تغيرت. فما يمكن وصفه بالطفولة السليمة صار مجرد تشبيه عن طفولة غير سليمة في نهاية الأمر، يقول الكاتب.
(باتريك) طفل الخامسة. يدخل المدرسة لأول مرة. يرفض الذهاب ويصر على أن أهله توقفوا عن حبه إلى درجة أنهم (سيتخلصون منه بإرساله إلى المدرسة)!
لا أحد من الوالدين انتبه إلى الحالة النفسية ل(باتريك).. عصبيته المبالغ فيها. وعزلته. شهيته للأكل قلت. والدته بدأت تقلق. في اليوم الأول من الدخول المدرسي، قابل (باتريك) الأمر بالبكاء. حين تركته والدته لمصيره شعر بالرعب. وظل يقاوم خوفه بالبكاء والنواح. إلى أن جاءته المدرسة لتواسيه. تكلمت معه. شرحت له بجمل بسيطة أن المدرسة ستعلمه قراءة القصص الجميلة وأنه كل يوم سيحكي لوالديه ما يتلقاه في المدرسة. قالت له إنها تحبه لأنه سيكون تلميذاً جميلاً. فقط. جمل قصيرة أعادت الطمأنينة إلى نفسية الطفل. جمل كان على الوالدين أن يقولانها لطفلهم. لكنهم لم يفعلوا لأنهم اعتبروا الدخول المدرسي حدثاً لا بد منه ولا داعي لمناقشته مع الطفل لأن مصيره سيكون المدرسة فحسب!
تلك الصورة التي يعرضها الكاتب عن اللاحوار القائم بين الطفل والوالدين. ربما الحوار الوحيد الذي يتبادله الجميع اليوم لا يخلو من سطحية، لهذا قد لا يلاحظ الوالدين التغيرات النفسية الطارئة على طفلهما. لكن بمجرد الانتباه إلى الأمر، يبدو الوقت أحياناً قد فات. حوار الكبار مع الصغار هو أهم مرجعية يمكن البدء منها نظام التربية. الحوار الذي يعني في النهاية العلاقة الطبيعية بين الأشخاص لفهم مطالبهم وأفكارهم ولهذا فإن الحوار القائم بين الطفل ووالديه هو الذي يسمح بفهم شخصيته وسلوكه وبالتالي إخضاعه إلى التعايش مع المتغيرات الكثيرة بموجب العيش فيها. كحدوث طلاق أو وفاة الخ. بعض الأشخاص يكذبون على الطفل ربما عن حسن نية. لكنهم لا يعرفون أنهم يمارسون جريمة في حق براءته. الكذب مهما كانت مبرراته يظل كذباً و ليس ثمة شيء اسمه الكذبة (البيضاء) أمام طفل لن يستطيع أن يتسامح مع من يخدعه باسم الحب. لهذا حين يبدأ الطفل في استيعاب ما يجري حوله ، يظل باستطاعته أن يحكم على الآخر وفق نوع الحوار الذي سيديره معه كما يؤكد مؤلف الكتاب. (برونو) الطفل الوحيد في أسرة انتظرت قدومه أكثر من 14 سنة. (برونو) له كل الصلاحيات. وله الحق في كل شيء. نسي والديه كيف يردعانه. (برونو) لا يعرف التمييز بين الصحيح والخطأ. بين الواجب والغلط. لهذا تبدو كل الأشياء سواء. حتى أسلوبه الوقح في الرد على والديه. في استعمال ألفاظ سوقية معهما. إنهما يعانيان اليوم من سوء تربية ابنيهما. سوء التربية تلك، كان نتيجة حالة الإسراف الشديدة في تربيته ونتيجة أخرى لأن الطفل في النهاية ضحية ذلك الإسراف نفسه. (برونو) الذي يبلغ من العمر اليوم 17 سنة يقضي عامين في مركز إعادة التربية (سجن الإصلاح) بتهمة الاعتداء بالضرب على والدته! هذه الصورة يقول الكاتب هي أخطر الصور التي تتكرر يومياً. الطفل ليس مسؤولاً عن سلوكه، عندما لا يجد بديلاً لما يتلقاه من الآخر، بمعنى أن كلما تمادى الوالدان في التسامح مع أخطاء الطفل كلما تجرد الطفل من تفسير ما معنى الخطأ وما معنى الصواب.
لقد اعتبر الغرب أن الضرب عامل سلبي يؤدي إلى عدم النمو السليم بينما من منظور خبراء نفسانيين أمريكيين نشروا دراسة حديثة أكدوا فيها أن الضرب (غير المبرح) واللوم و العتاب الرقيق والعقاب بحرمان الطفل من أشياء يحبها هي من أبرز النقاط التي يجب القيام بها في تربية الطفل. ربما كانت قضية (توماس دريكسون) البالغ من العمر 15 سنة والذي أطلق النار على والديه في الريف الفرنسي بمثابة ناقوس الخطر لخبراء نفسانيين فرنسيين. فالأطباء الذين قابلوا (توماس) في السجن طرحوا عليه نفس السؤال: بماذا تشعر؟ فرد (توماس) أنه يشعر بالراحة!!! .
|