عرف المجتمع الفلسطيني وبالذات بعد تسلُّم قادة الثورة الفلسطينية إدارة الأراضي (المحررة) في قطاع غزة والضفة الغربية بالانفتاح والسعي لتحقيق الديمقراطية، ورغم هيمنة تنظيم حركة فتح على السلطة الفلسطينية الجديدة، وحصول تجاوزات عديدة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تعددت وتضخَّمت، إلاّ أنّ التجربة الفلسطينية والتعامل بين الفلسطينيين داخل المؤسسات الوليدة، أبرزت نموذجاً ديمقراطياً تفتقر إليه العديد من الدول النامية، ومنها بالطبع الدول العربية.
صحيح أنّ القادة التاريخيين للثورة الفلسطينية تصدَّروا الواجهة السياسية، وهيمن الفتحاويون على المراكز الأولى، إلاّ أنّ فتح كان لهم الأغلبية، فتجاوبت صناديق الاقتراع مع هذه الأغلبية وترجمت النتائج في المجلس التشريعي، وانتخب أبو عمار رئيساً للسلطة، وهي ترجمة واقعية للمزاج الفلسطيني والثقل السياسي.
.. الآن يجري العمل من أجل إجراء انتخابات جديدة لاختيار رئيس للسلطة، تعقبها انتخابات لاختيار أعضاء المجلس التشريعي وبعدها الانتخابات البلدية .. إذن الفلسطينيون مقبلون على استحقاقات ديمقراطية، وهنا يُفترض أن يلتزم الجميع بضوابط وثقافة الانتخابات وأسسها من نزاهة وشفافية وحرية الترشيح، ولهذا فإنّ إقدام إثني عشر مرشحاً على ترشيح أنفسهم يُعَدُّ عملاً إيجابياً ومظهراً صحِّياً يسجَّل لصالح الفلسطينيين ولا يُعَدُّ مظهر تشتُّت أو فرقة كما يحاول البعض الإيحاء بذلك، فالديمقراطية تعني الاحتكام لصناديق الاقتراع وإعطاء الحرية للناخب لاختيار الأفضل، كما أنّ الديمقراطية تعني عدم فرض الأمر على الآخرين للمشاركة في الانتخابات، وهو حق مارسته حركتا حماس والجهاد، إلاّ أنّه يؤخذ على الحركتين الدعوة لأنصارهما بمقاطعة الانتخابات، أي عدم المشاركة في التصويت ... وهذا ما يوجب التفريق بين الترشيح وبين دعوة الجمهور بعدم المشاركة .. فالموقف الأول حق ديمقراطي لإبراز موقف سياسي، أما الموقف الثاني فهو إجراء سلبي لا يخدم القضية الفلسطينية.
.. أما الموقف السلبي الأكثر خطورة فهو بروز ظاهرة التخوين والتشكيك بشخصيات فلسطينية بارزة لمجرد حماية حقها في الترشيح للانتخابات بحجة الخروج على إرادة التنظيم .. فقد خرجت بعض الكتابات والآراء الفلسطينية تهاجم المناضل الفلسطيني الأسير مروان البرغوثي لأنّه عاد وسحب تراجعه عن الترشيح للانتخابات.
بعض الكتّاب الفلسطينيين الذين يعيشون خارج فلسطين في أماكن وفيرة معززين مكرمين، استلُّوا أقلامهم وبدؤوا في شن حملات التشكيك والتخوين باتجاه من يقضي مئة عام سجناً في معتقلات إسرائيل ..!!
.. قبل ذلك تعرّض محمود عباس (أبو مازن) لحملات التخوين والتشكيك والعجالة .. ومثله نال محمد دحلان نصيبه، وغيرهم كثيرون .. لمجرد أنّ لهم وجهة نظر .. موقف بدلاً من أن يناقش بهدوء وبأسلوب حضاري وديمقراطي، وفق مسارات وأساليب ثقافة الخلاف، يتبرع المتسرعون بتوزيع تهم الخيانة والعمالة على من سيصبح واحد منهم رئيساً لفلسطين ..!!
|