قبل الموعد بأقل من ساعتين علمْتُ (هاتفياً) بأن هنالك محاضرة تنظمها السفارة السودانية بالرياض للفنان التشكيلي الأستاذ الدكتور محمد عبدالمجيد فضل، وهذا الرجل تربطني به تلك العلاقة الجميلة التي كلما تأملتها قفز إلى جوارحي قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلا
كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولا |
بمثل هذه الكلمات الرائعة، وهذا الإحساس النبيل، أصف مشاعري تجاه رجل تتلمذت على يديه لمدة تزيد عن العقدين من الزمن، ونعمت بمشاعر الأبوة الحانية التي منحني إياها.
اصطحبت أبنائي الثلاثة الذين أصرّوا على الحضور والسعادة تغمرهم لأنهم ببساطة شديدة يعدّون أنفسهم أحفاداً للمحاضر.
والحقيقة أنها كانت محاضرة رائعة بمعنى الكلمة؛ بدءاً بتوقيتها من بعد صلاة العصر مباشرة إلى أذان المغرب من يوم الخميس 28-1-1425هـ، وانتهاءً بوجبة القُرّاصة الرائعة وتوابعها (سودانية 100%) تَبيَّن لاحقاً أنها وجبة إفطار تقدمها السفارة للصائمين في نهاية النشاط الثقافي الذي تنظمه اللجنة الثقافية كل يوم خميس، ومروراً بأواصر المحبة والودّ والإخاء التي سادت جوّ المحاضرة التي لم تكن فقط شاهد علم وثقافة تحرص عليه الجالية السودانية في خارج الوطن، وإنما هي أيضاً شاهد إصرار وتأكيد على استمرارية العلاقات المتينة التي تربط بين أفراد الشعب السوداني، والتي تنظر إليها الشعوب الأخرى بعين الرضا والإعجاب.
وهي رائعة أيضاً بحوارها الهادئ بإدارة الأخ الشيخ علي أبوالحسن السمّاني؛ عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الذي افتتحها قائلاً: (الحمد لله الجميل الذي يحب الجمال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (إن الله جميل يحب الجمال)(1)، وبعد أن قدَّمَ المُحاضِرَ غادر مكانه في المنصة ليجلس بين الحاضرين ويسعد معهم بما يقدمه المحاضر من معلومات وما يعرضه من فنون.
ولا أخفيك قارئي الكريم أنني وفقاً لعنوان المحاضرة: (الفن والجمال)، توقعت أن تختص فقط بالفنون وتفرعاتها من تشكيلي وتجريدي وسريالي..إلخ، إلا أنها كانت متعددة الاختصاصات؛ فهي روحانية وتربوية وفنية في آن معاً، ويطيب لي أن أنتقل معك إلى بعضٍ من أجوائها.
تناول المحاضر موضوع النظريات الجمالية مشيراً إلى أنه موضوع كبير جداً ومتشابك، وأنه في الأصل تابع لعلم الجمال الذي هو فرع من فروع الفلسفة الخمسة الآتية:
الفرع الأول: هو علم (الغيبيات) الذي يجمعه الفلاسفة، وهو علم أساسي ومهم جداً في حياتنا، لأننا نتعامل مع الغيبيات في كل مناحي الحياة من فنون وغيرها، فالغيبيات هي الشيء المُغيَّب الذي لا يُرى ولكنه موجود؛ مثل: الله سبحانه وتعالى، والملائكة، والشياطين، والجنة، والنار، كل هذه غيبيات لا تُرى ولكننا نؤمن بها، واستشهد المحاضر بقول الله سبحانه وتعالى:{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(سورة البقرة: الآيات 1 - 3)؛ أي أن الإيمان بالغيب أولاً.
والفرع الثاني: من فروع الفلسفة هو علم المعرفة.
والفرع الثالث: هو علم المنطق، وتحدث المحاضر عن أهمية علم المنطق وحاجة الإنسان إليه في كل شيء حتى في مجال الدعوة إلى الله، وأشار في ذلك إلى مثال قديم في التوحيد حينما سأل الأعرابي: كيف تبرهن على وجود الله؟ فأجابه الداعية انطلاقاً من البيئة التي يعيشها الأعرابي؛ إذ نظر الداعية إلى الأرض فرأى بعرة بعير، وأقدام إنسان، فأشار إليها بيده وقال للأعرابي: (هذه بعرة تدل على بعير.. وأقدام تدل على مسير.. أفلا يدل هذا الكون على خالق بصير!!). أما الفرع الرابع من فروع الفلسفة فهو علم الأخلاق، ولم يتوسع المحاضر كثيراً في هذا العلم مكتفياً بالإشارة إلى أن مصدر أخلاقنا نحن المسلمين واضح وسهل ومعروف، في إشارة إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
وأما الفرع الخامس والأخير فهو علم الجمال، وهو موضوع المحاضرة، وفي إطار مقدمته الرائعة حيال هذا العلم، تطرق المحاضر إلى أن أول مَنْ بدأ البحث في علم الجمال هم الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وسقراط، وحيال تعريفه لعلم الجمال طرح سؤالاً يقول: (هل الجمال حقيقة؟) وأراد أن يلفت انتباه الحاضرين إلى هذا التعريف فوجه السؤال إليهم وأشعرهم أنه ينتظر إجاباتهم - وهذه بلاشك طريقة ناجعة في توصيل المعلومة إلى المتلقي - ثم بدأ في استقبال الإجابات، ولكنه أراد أن يفرد عضلاته بتلقي الإجابة الأولى من حفيده الأكبر؛ (ولدي علي) الذي قال: (طالما أن الله جميل يحب الجمال فإذن الجمال حقيقة)، ولم يبد المحاضر أية إشارة أو تعبير يوحي فيما إذا كانت الإجابة صحيحة أم خاطئة، بل استمر في توجيه السؤال نفسه إلى آخرين ويستقبل إجاباتهم، فكانت هنالك ثلاث أو أربع إجابات مشابهة للجواب الأول؛ (نعم الجمال حقيقة)، إلى أن أجاب أحد الحاضرين ب (لا.. الجمال ليس حقيقة)، فأيده المحاضر وسأله: لماذا؟ فأجاب: (لأن الحقيقة هي التي يتفق عليها الجميع)، فانشرح صدر المحاضر قائلاً: (هذه النقطة التي نريد أن نصل إليها، والشيء الغريب أن أغلب الناس يقول (الجمال حقيقة)، والفلاسفة يقولون: إن (الجمال ليس حقيقة)، ومثّلَ لذلك بالقلم قائلاً: ( إذا قلنا هذا (قلم) فهذه (حقيقة)؛ لا أحد يستطيع أن يعترض، لكن إذا قلت هذا القلم (جميل) يبدأ (النقاش)!) وهنا كانت وقفتي الأولى متسائلاً (هل فعلاً أن الحقيقة هي فقط التي يتفق عليها الجميع؟!! وهل فعلاً أن الأمر الذي لا يتفق عليه الجميع لا يكون حقيقة؟!! فإذا كان الأمر كذلك فقد نصل إلى إشكالية كبرى في موضوعات حساسة كثيرة!!)، وأثرْتُ هذا التساؤل في ختام المحاضرة، وبسعادة كبيرة تجاوب المحاضر الكريم بكثير من التحليل والتدليل، إلا أن الوقفة بقيَت قائمة! ومما زاد من وقفتي أنني في أثناء انشغالي في البحث حول هذا الموضوع قرأت عبر الشبكة العنكبوتية (http://www.alnadwa. net/ Lang-arabic/adboalmjmal.htm)
للدكتور نجيب الكيلاني تحت عنوان: (الأدب الإسلامي وعلم الجمال) ما يؤكد أن (الجمال حقيقة)، ولعلي أقتبس فيما يأتي بعضاً مما قرأت:
يقول الكيلاني: (من الخطأ أن نعتقد أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها، تلك التي تقع عليها العين، أو تسمعها الأذن، أو يشمها الأنف، أو يتذوقها اللسان، أو تتحرك لها لمسات الأطراف العصبية، فالجمال مادة وروح، وإحساس وشعور، وعقل ووجدان، فإذا التقى فلاسفة الجمال في بعض الجوانب أو العناصر، فستظل هناك في عالم الجمال مناطق يعجز الفكر الفلسفي عن إدراك كنهها، والوصول إلى أبعادها، فليس العقل وحده هو القوة القادرة على استكناه كل أسرار الوجود وما خفي فيه، ولحكمة يقول الله في كتابه العزيز (... {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج (46) ويقول أيضاً: (لقد استطاعت الفلسفات القديمة أن تصل إلى قناعة بأن القيم الثلاث (الحق - الخير - الجمال) هي القيم الكبرى في الوجود، وأنه تحت مظلة هذه القيم الثلاث الكبرى تندرج القيم الإنسانية جميعاً فروعاً لها، وقيمة (الخير) تلك تنبثق من التفرقة بين ما هو رذيلة وشر، وبين ما هو فضيلة وخير).
ويستشهد الكيلاني بقول الأستاذ محمد قطب في منهج الفن الإسلامي: (إن كلا من الفن والدين يعبر عن الحقيقة الكبرى... إن القرآن يوجه الحس البشري للجمال في كل شيء، وإنه يسعى لتحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوباً حيّاً مع الأشياء، والأحياء، وهنا يلتقي الفن بالدين... والفن الصحيح هو الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود)، ثم يواصل الكيلاني قوله: (والجمال ليس قيمة سلبية لمجرد الزينة، كما أنه ليس تشكلاً ماديّاً فحسب، ولكنه بالمعنى الصحيح حقيقة مركبة في مداخلها وعناصرها وتأثيراتها المادية والروحية، وموجاته الظاهرة والخفية، وفي انعكاساته على الكائن الحي... وإذا كانت الحقائق قد شابها بعض الزيف أحياناً تحت تأثير التصورات الفلسفية قديماً وحديثاً، فإن القرآن الكريم قد وضع أيدينا على الحقائق الكبرى في الدنيا وفي الآخرة..
ومن المعلوم أن صور الجمال لا تعد، وأن آفاق الحقائق المختلفة لا تحدها حدود، والأديب المسلم يستطيع أن ينطلق دون عائق في عوالم الحق والجمال والخير والتوحيد والعدل والحب والرجاء).
انتهى الاقتباس الذي أورده هنا رغبة في تسليط الضوء على هذه الاختلافات في وجهات النظر، ولعل أستاذي الكريم والمختصين في موضوعات الفن والجمال والحقيقة يقدمون للقارئ ما يُريحه ويُريح قناعاته. أما الوقفة الثانية فذات شقّين، الشق الأول له علاقة بجلسة نقاش جمعتني قبل أكثر من خمس عشرة سنة بأحد أعضاء هيئة التدريس بقسم التربية الفنية بجامعة الملك سعود، حيث إنني من خلال المعلومات التي استقيتها منه، سألته مستغرباً: كيف يكون شعورك وأنت ترسم امرأة تجلس أمامك بالساعات وهي عارية؟ فأجاب بأن الأمر وقتئذٍ لا يتصل مطلقاً بأحاسيس العاطفة أو الرغبة، وإنما يقتصر على الحس الفني الذي يدفعني للرسم والإبداع، وهذا مما يزيد العمل الفني جمالاً!! ثم أخذ يتغزل في إنجازات الفنانين التشكيليين وخصوصاً أولئك الذين لا ينتسبون للعروبة أو الإسلام.
إجابة أزعجتني، ثم مع مرور الوقت ظننت أنها ذهبت وغاصت في عالم النسيان، إلا أن هذه المحاضرة القيمة نبشت عليها وأخرجتها من اللا شعور لتضع عليها علامة (*) بالخط العريض وباللون الأحمر، إذ تألق المحاضر وهو يُعرِّف الفن الجميل بأنه ببساطة شديدة هو الذي يُريح الإنسان، ولإدراك معنى الراحة هنا قدّم مثالاً ذكر فيه خطوط الطول والعرض الموجودة في (المنخل) الذي إذا وضعنا فيه أشياء لغرض تنقيتها، فإن القسم النقي هو الذي يمر عبر تلك الخطوط، وقال: (في مجال تقييم العمل الفني فإن هذه الخطوط تتكون من العادات والتقاليد والدين والتاريخ والعوامل النفسية، فإذا مرّ العمل الفني من تلك الخطوط؛ أي إذا وافق تلك القيم فهو مُريح، أما إذا كان هنالك أحد ليس عنده أخلاق ولا دين فعمله الفني لا يمر عبر هذه الخطوط وبالتالي لا يكون مُريحاً).
وهذه الخلاصة الرائعة تكفي لردٍ أنيق على تلك الإجابة، وتذكرنا بقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
ليس الجمال بأثوابٍ تزيننا
إن الجمالَ جمالُ العلمِ والأدبِ |
وتذكرنا كذلك بقول المتنبي:
وما الحسن في وجهِ الفتى شرف له
إذا لم يكُنْ في فِعْلِه والخلائقِ |
والشق الثاني من الوقفة الثانية كان مع أصالة فكر المحاضر وهو يعرض مادة مسجلة على شريط فيديو تحتوي على مجموعة رائعة من الفنون المختارة من مصادر مختلفة ومشاهد مختلفة، وكم كان رائعاً وهو يحلق بالحاضرين في سماء الفنون، مؤكداً أن تاريخها بدأ انطلاقاً من الفنون الإسلامية، ومبيناً كيف أن المسلمين الأوائل ذهبوا يجملون المصاحف ويزينونها (يدوياً بالفرشاة والألوان) بزخارف دقيقة جداً وأنيقة جداً، ومؤكداً أن الأصل في هذه الفنون هو التراث الإسلامي الذي انتقل إلى الغرب، وأخذ منه الغرب الشيء الكثير، وأشار إلى أن كل المدارس الموجودة في الغرب مأخوذة من الفن الإسلامي، ثم استحضر المحاضر قصة أولئك الذين ذهبوا يقلدون اليهود والنصارى وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) (صحيح البخاري؛ حديث رقم 6889)، وعلى غرار ذلك انتقد المحاضر سلوكيات الكثير من الفنانين قائلاً: (إننا أصبحنا مثلهم، أي فنان عربي يقلد الغرب حتى في أدق التفاصيل ويعدونها فنوناً؛ إذا تسريلوا تسريلنا وإذا تجردوا تجردنا).
وأكد المحاضر أنه لا يرمي هذا الكلام هكذا، ولكنه يعكف حالياً على توثيق هذا الموضوع في كتاب سيصدر قريباً إن شاء الله تحت عنوان: (جحر الظبية في الفنون التشكيلية العربية المعاصرة). ولا يسعني هنا إلا أن أسجل عظيم تقديري واحترامي لوالدي ومعلمي الأستاذ الدكتور محمد عبدالمجيد فضل، وبشأن كتابه - الذي أتمنى له التوفيق في إنجازه - أهمس إليه راجياً ألا يطول الانتظار.
هوامش:
(1) كثير من الناس يتداول عبارة (إن الله جميل يحب الجمال) على أنها من الأقوال المأثورة وليست من الأحاديث النبوية الشريفة، بينما هي في الواقع وردت على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي: (عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال: (إن الله جميل يحب الجمال.. الكبر بطر الحق وغمط الناس) رواه مسلم.
كاتب فلسطيني مقيم في الرياض
|