Thursday 2nd December,200411753العددالخميس 20 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "سماء النجوم"

الجانب الآخر الجانب الآخر
قصة: لؤي حمزة

اتكأ على الكرسي، أحسه يحتوي جسده ويضمه إليه، ثم رمى برأسه على الحافة المستديرية اللعينة، وأغمض عينيه، وما زالت حلاوة الشاي في فمه تخالطها مرارة خفيفة، فقد تعود خلال سفراته أن يقضي وقتاً في كافتيريا المحطة، يتناول كوباً من الشاي يقدمه في كل مرة نادل جديد، ويراقب جموع المسافرين، شيء ما يذوب في داخله وهو يحس أوقات الانتظار الأخيرة تصبغ الوجوه بشعور يكاد لا يرى في مكان آخر.
فتح عينيه كان القطار قد بدأ بالحركة، بطيئاً، كأنه يعاني في انفصاله من ظلال السقائف ومن ترقب عيون أناس الرصيف، استغرب إلى أن أحداً منهم لم ينتبه للحركة ولم يهتم لساعة المحطة وهي تشير، بمقدمة حذائه دفع حقيبته السوداء ثم التفت من على كرسيه ورأى العربة خالية، فكر أن ثمة خطأ ما، لا بد وإلا فما معنى أن يواصل الناس انتظارهم، وأن ينوء وحده
مع الاندفاعة البطئية للقطار؟
أحزنه أن يسافر من دون صديقه وهو يستمع لدوران العجلات يملأ فضاء العربة ويعيد لذهنه ضجة بشرية غائبة وامتزاج روائج ورغبات، كانا قد اتفقا على أن يمضيا معاً يتمتعان بصحبة الطريق ويستعيدان شيئاً من حديث السنين الخوالي، توجه قبل الثامنة صباحاً إلى المحطة بعد أن استيقظ في السابعة واثنتين وعشرين دقيقة، أيقظ زوجته ومضى إلى الحمام، عندما عاد كانت ما تزال تلتقط أنفاس النوم الأخيرة ويدها مطروحة خارج الفراش، هاله أن يجد كل أولئك الناس في صالة المحطة في تمام الثامنة لم يكن يعتقد أنه سيواجه مصاعب في حجز تذكرتين في قطار المساء، سحب هويته بصورته ذات اللونين الأسود والأبيض التي أعاد طبعها لسنوات وهوية صديقه واتخذ مكاناً آخر الصف، منح نفسه لتدافع الموجة البشرية وقد وقف خلفه أناس آخرون فشعر بأنه صار بعضاً من جسد الموجة التي تحرك عشرات الرؤوس، وتشوح بعشرات الأيدي كأنها تسبح في نهر الصالة الواسع الكونكريت.. اقترب أحدهم لم يحلظه إلا حينما صار قريباً منه وطلب بإشارة من يده هويته، تملكه شعور غريب وهو ينظر إلى عيني الرجل واطمأن قليلاً لما رأى ابتسامة ترتسم على شفتيه وسمعه يهمس: يمكنك أن تحجز معنا وأشار إلى الأمام، نظر باتجاه الإصبع ورأى ابن عمه صفاء يلتفت من أول الصف، ملامحه غريبة نوعاً ما تطل من بين الرؤوس والأكتاف، اقترب أكثر وقال: سنحجز غرفة بثلاثة أسرة، أنا وصفاء وأنت، هات هويتك، أشكرك، أجاب، علي أن أحجز بطاقتين لي ولصديقي، رفع الهوية ذات الصورة الملونة مؤكداً أنه ليس بمفرده لكنه الآن وحده في العربة فأين الصديق وأين صفاء وأين الرجل؟
أخذ القطار يزيد من سرعته فتتخاطف من حوله المناظر, يزول عالم ويطل عالم، أسند يده على ذراع الكرسي ونهض، مع أولى خطواته إلى باب العربة كاد يصدم بوجهه الجدار فقد علقت قدمه بذراع الحقيبة، خلصها بحركة دائرية في الهواء وعاود اندفاعه، دفع درفتي الباب إلى الجانبين وأغمض عينيه متوقعاً ضربة الريح تنفخ في المنطقة الرابطة بين العربتين، تلاحقت المساند الأرضية للسكة من خلال الفتحة السفلى أمام عينيه واحتك الحديد.
سحب خطواته حائرة إلى العربة الأخرى وكانت فارغة أيضاً، توجه على الفور إلى النافذة فرأى جمالاً تجتر غير عابئة بحركة القطار، قريبة إلى درجة خشي معها أن يصدمه رأس أحدها مهشماً زجاج النافذة فتراجع ليسلم جسده لأحد الكراسي ثم شاهد صبياً، ساقاه مفتوحتان ورأسه محني إلى الإمام، هل كان يدور بالقطيع في وحشة الصحراء، شاهد بعده رجلاً بسترة بيضاء يرفع يده مضمومة القبضة، حدث نفسه مرة أخرى بأن خطأ لا بد وقع لكنه شك بأن القطار سيخفف من اندفاعه وأن أحداً سيأتي ليتفقد العربات فقد غادر القطار اهتزاز سرعته المتوسطة وبدأت المشاهد تتداخل مختلطة مثل ضربات لونية قبل أن تختفي تاركة النوافذ لغيب المساحات الفسيحة. رأى نفسه مع امتداد الرمال في حلم البارحة، يجلس إلى مائدته في ركن مطعم عرف بطريقة ما أنه مطعم الفندق الذي يقيم فيه، ينظر أثناء إفطاره من خلال النافذة فيرى السيارات سريعة تمر ويرى الحيوانات تنحرف ما أن تقترب من واجهة الفندق عابرة إلى الجانب الآخر، راوده، وقتها شعور بأن شيئاً ما يتغير: يغيب نزيل ويحل نزيل لكنه استغرب لتردده في تنفيذ ما قطعه على نفسه في الليل وهو يسمع استغاثات النزيل السابق وضربات خطوات متلاحقة على أرض الممر من أنه سيحزم حقيبته ويغادر في الصباح فلا طاقة له على تحمل ذلك كل مساء، لكنه رأى نفسه جالساً إلى المائدة يفكر في النزيل الجديد والسيارات المارة وحيوانات الشارع.
لم يصدق أن نتفاً من غيوم رمادية أخذت تحيط بالعربة ومن حولها تغيب المساحات. مع ازدياد السرعة شعر بضيق في تنفسه كما لو أن سائلاً مخدراً ينتشر في شرايينه بدأ يحس بضعف أطرافه وبالبرودة تلف جسده.. قبل أن يغمض عينيه رأي الغيوم تتكاثف. وكان حزيناً.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved