لا جديد في كل ما نشاهده اليوم من أحداث مأساوية تدمي القلب ويندى لها الجبين، وإنما الجديد أن تتجسد في الإنسان العربي والمسلم مقولة ( لا أسمع .. لا أرى .. لا أتكلم )، ويبدو مع هذا الجديد أنه قد آن الأوان لإجراء تعديل بسيط جداً على ذلك العمل الفني (المنحوت) الذي يصور ثلاثة قرود يجلس كل منهم بجانب الآخر، وبأيديهم: يَصمّ الأول أذنيه، ويُغمّي الآخر عينيه، ويَكتم الثالث فمه، فالأجدر تبرئة القرود من هذه التهمة التي يجب توجيهها إلى إنسان هذا الزمان الذي أصبح الأكثر من بين المخلوقات قبولاً للذل والمهانة.
والعجيب أن رجالات الصحافة والإعلام مازالوا يتباهون بالنظر إلى مهنتهم على أنها مهنة المتاعب والمصاعب، وأنها ترتكز في المقام الأول على النزاهة والحيادية والمصداقية، وأنها لا تقبل مطلقاً وتحت أي ظرف من الظروف المساومة على ذلك!
والأكثر عجباً ليس فقط أنهم لم يكتفوا بإطلاق مسمى (السلطة الرابعة) على الصحافة (وهذا ينسحب على الإعلام عموماً)، بل راحوا يتمادون في تمجيد الإعلام في عصر الإنترنت والعولمة والنظام العالمي الجديد وسَيَّدوه على السلطات الثلاث التي سبقته؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، وألبسوه وشاح (السلطة الأولى) بلا منازع، فهو الذي يتولى بناء الذات والمجتمعات، وهو الذي يبرز الأدوار في كل مناحي الحياة، وهو الوحيد المؤثر في صناعة كل الثقافات، وهو المقياس الأوحد الذي تزن به الأمم أمنها وتقدمها ورقيها.
لست أدري حقيقة عن أي أمن أو تقدم أو رقي، وعن أية نزاهة أو حيادية أو مصداقية، يتحدثون! وقد سقطت أبسط مفاهيم الديمقراطية، وضاعت حقوق الإنسان كلها؛ صغيرها وكبيرها، في عصر القطب الواحد الذي استطاع بالقوة، ولا شيء غير القوة، أن يفرض مفاهيمه الخاصة به، ويعيد رسم شرايين أدمغتنا ومنظار بصيرتنا لتكون مسخرة ليس فقط على النحو الذي يقبل بمخططاته ومؤامراته بل أيضاً على نحو نقدم فيه أرواحنا وأبناءنا وأراضينا وأموالنا تافهة رخيصة من أجل تحقيق أهدافه، وهذه كلها لا تحتاج إلى دلائل فهي واضحة للجميع وضوح الشمس.
ولست أدري أيهما أولى بغرس رأسه في التراب (النعامة) أم (السلطة الرابعة)! ولعل مسلسل (الطريق إلى كابل)، الذي أوقف بَثُّه عنوة، يضع الخيار الأخير إجابة لهذا التساؤل، إنه السلطة الرابعة التي أَوقَفت بث هذا المسلسل وضربت عرض الحائظ (أو الجدار العازل إن شئتم) كل ما ينتج عن هذا الإيقاف من تداعيات، والتي فشلت حتى في اختلاق الأسباب؛ فتارة تَدَّعي أن سبب إيقاف البث يعود إلى أن هنالك عدداً من حلقاته يشتكي نقصاً في المعلومات، أو إلى خللٍ بَيِّن في السرد التاريخي للأحداث! فتنهال عليها الاتهامات بأن هذا محض افتراء، أفيُعقل ألا يُكتشف مثل هذا الأمر إلا بعد بث سبع أو ثماني حلقات من المسلسل؟! فتُغيِّر السلطة الرابعة وتُبدِّل ثم تذهب إلى ادِّعاء آخر - وأجزم أنه باطل لا أساس له من الصحة - يشير إلى أن تهديداً إرهابياً عبر شبكة الإنترنت تسبب في إيقاف المسلسل! وكما هو معتاد أُلصِقَت التهمة بالإسلام والمسلمين!!
لست هنا بصدد الحكم على المسلسل فيما إذا كان جيداً ومنصفاً أم غير ذلك، فهكذا أمر لا يمكن الفصل فيه إلا بعد مشاهدة المسلسل كاملاً، ولكنني أتساءل: تُرى أي تهديد هذا؟
ومنذ متى يُمارس المسلمون أو يقبلون أن يُمارس القمع والإرهاب الفكري ضدهم أو ضد الآخرين!!
ومنذ متى يقبل المسلمون تكميم الأفواه وأسر الحريات، فهم لم يفعلوا ذلك وهم في أوج قوتهم وعنفوانهم، فكيف يفعلون ذلك الآن وهم مغلوبون على أمرهم لا حول لهم ولا قوة!!
ومنذ متى يُستجاب للتهديدات على هذا النحو المشين!
ثم أين هي قوة السلطة الرابعة التي لا تحيد عن النزاهة ولا تقبل المساومة عليها!
لن أزيد في طرح التساؤلات فهي كثيرة وكبيرة، وإنما أقف عند علامة استفهام كبرى حول إمكانية الربط بين تلك العلاقة التي أوقفت بث المسلسل، وبين تلك التي أقفلت عيون الصحافيين وأسرت أقلامهم وأبعدت عدسات آلات التصوير أو سلبتها - وتشهد على ذلك مكاتب القنوات الفضائية ومراسلوها؛ الجزيرة والعربية وأبوظبي وأخواتهن الأخريات، في أجزاء متفرقة من هذا العالم الهزيل؛ في أفغانستان وفلسطين والعراق، وما أدراك ما جرى ولا يزال يجري الآن في العراق ومدنها وأخص بالذكر (أخت جنين المقاومة والصمود كما قال أستاذي الكبير الدكتور عبدالله العثيمين)؛ مدينة الفلوجة الباسلة الصامدة التي هُدمت مبانيها وقُتل أطفالها ونساؤها وحوصر من بقي منهم على قيد الحياة تحت ركام بيوتهم المدمرة وحُرموا حتى من مجرد إلقاء نظرة شفقة عليهم من قبل العالم الخارجي!!
ترى هل شُلت قوة السلطة الرابعة بفعل تهديد إرهابي (إسلامي) آخر أيضاً! أم أن المسؤول عن هذه وتلك هو هولاكو هذا العصر الذي هجم بعسكرتاريته الظالمة الحاقدة بلا رحمة ولا رأفة يجتاح البلدان واحدة تلو الأخرى يقتل أحياءها ويسلب ثرواتها ويعيث فساداً في مساجدها وكل مقدساتها.
وأيضاً لا بأس في كل ذلك، فلدينا يقين أن هذا ليس أسوأ ما مرّ به المسلمون من أزمات، ولدينا يقين لا يتزعزع أن الله تقدس اسمه وجلَّت قدرته يمهل ولا يهمل وأنه القاهر فوق عباده.
* كاتب فلسطيني مقيم في الرياض
|