Wednesday 1st December,200411752العددالاربعاء 19 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

أنقذوا الفتوى من الامتهان أنقذوا الفتوى من الامتهان
د. محمد بن علي آل خريف

بعد ما أصبحت الفتوى الشرعية كلأً مباحا يتصدى لها كل أحد ، فإن الوضع ينذر بآثار وخيمة على الأمة بدأت نذرها تلوح في الأفق ، تتضح معالمها بهذه الفوضى والتخبطات المتزايدة من دون خطام ولا رادع ، حتى غدا العامة من المسلمين في حيرة من أمرهم تجاه تحديد المنهج القويم الذي يسيرون عليه ، والموقف الصحيح الذي ينبغي أن يتخذوه تجاه قضايا الأمة ومشاكلها المصيرية.
ومع تسارع الأحداث والفتن التي تتعرض لها أمتنا من كل صوب اشرأبت أعناق كثيرة تصرخ بأصوات نشاز ، أقل ما يقال عنها أنها تزيد من النكاية بالأمة ، وتشتيت جهودها المبعثرة لمواجهة هذه الخطوب المتلاطمة ، فتربك المسير وتوهن وحدة الصف ، بما يزيد من إغراء العدو في الإمعان في عدوانه واستباحته لمقومات الأمة الأساسية .. من هنا فإن كلامي لن يتوجه إلى اللاعبين واللاعبات واللاهين واللاهيات ، الذين يخوضون في قضايا الأمة بجرأة تثير الاشمئزاز بعدما بلغوا حد الثمالة من التبعية للعدو علموا أم لم يعلموا ، فأصبحوا في صفه يذودون عن مواقفه ويشدون من أزره بإثارة الزوبعات التي قد تربك وتضعف الأمة ، لكن من حسناتها أن كشفت الخداع الطويل الذي كان يمارس على المخدوعين بعذب كلام هؤلاء من وراء ستار. ولكن كلامي موجه لمن يتصدى لقضايا الأمة عن حسن نية وحماس متسرع ، دون أن يملك القدرة والبصيرة والحكمة التي تؤهله للتصدي لهكذا أحداث ، فأضر من حيث أراد النفع ، وأفسد من حيث أراد الإصلاح ولله في خلقه شؤون ! كلامي لمن بقي لديه بقية من حياء وخوف وتقى بأن يرعوي ويكفي الأمة من هذا الهراء ، فخير له السكوت والتوقف واعتزال الخوض فيما لا يجيده وليسعه ما وسع غيره ، فإن لم يقل الحق فلا أقل من أن يسكت عن قول الباطل.
أين أنتم من سلف هذه الأمة من الصحابة ومن تبعهم ؟ ولنأخذ طرفا من أخبارهم للعبرة والعظة ، كما نقل ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين (ج 4) : قال ابن أبي ليلى : أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه .. ولما سئل الشعبي عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل له : ألا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال : لكن الملائكة لم تستح حين قالوا : لا علم لنا إلا ما علمتنا ، وسئل القاسم بن محمد عن شيء فقال : إني لا أحسنه فقال له السائل ، إني جئتك لا أعرف غيرك ، فقال له القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس من حولي والله ما أحسنه ، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه : يا ابن أخي إلزمها فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم ، فقال له القاسم والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به .. أهـ .. والذي دفع هؤلاء الإجلاء لذلك معرفتهم بخطورة الفتوى ، التي لخصها الإمام الشافعي في قوله : المستفتي عليل والمفتي طبيب ، فإن لم يكن ماهرا بطبه قتله ، ومع أن ظاهرة الحرص على التصدي للفتوى ظاهرة مرضية قديمة في الأمة ، إلا أنها لم تكن بهذه الجرأة الحاصلة في هذا الزمن ، فقد ذكر أبو الحسن الأزدي ذلك بقوله : إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر ، وهذا الحال دفع ربيعة بن أبي عبد الرحمن للبكاء ، فقال له رجل ما يبكيك فقال : استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق ! ، وقال بعض العلماء تعليقا عليه : فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا ، وتوثبه عليها ومد باع التكلف إليها ، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة ، وهو بين أهل العلم منكر أو غريب ، فليس له في معرفة الكتاب والسنة نصيب .
وأقول أيضاً كيف به لو رأى زماننا هذا وما فيه من العجائب والطوام في الجرأة على الدين ، والخوض في مسائله بغير هدى ولا كتاب منير ، لبكى دما من هول المأساة وإلى الله المشتكى ، وبروز هذه الظاهرة يأتي مصداقا لما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ، هذه هي النتيجة الحتمية ضلالهم وضلال الناس معهم والواقع يشهد بذلك ، إن العالم المجتهد المطلق في أمتنا غير موجود في هذا الوقت حسبما أرى ، ولكن يوجد مجتهدون في باب من أبواب العلم الشرعي أو مسألة من مسائله ، لذا لزم تجزئة الاجتهاد بحيث لا يفتي إلا كل متخصص في فنه على المستوى الفردي ، مع موازنة في ذلك بين الورع من الفتوى بغير علم وبين مغبة كتمان العلم من قبل القادر على البيان فهذا الأمر ذميم .. وأما المسائل المتعلقة بقضايا الأمة العظمى ، فيتعين أن يوكل التصدي لها إلى ثلة من العلماء المؤهلين ، لتدارس جوانبها المختلفة وصولا إلى اجتهاد شرعي متفق مع النصوص المعتبرة ومحقق لمصالح الأمة .
أمر آخر ذو أهمية ينبغي التفطن إليه ، وهو لزوم التفريق بين القدرة على تدريس العلوم الشرعية ونقل أحكام المسائل الثابتة فيها إلى العامة ، وبين الفتوى في المسائل الحادثة والطارئة ، التي ينبغي الحذر من ترك الحبل على الغارب للخوض فيها لكل أحد ، بل يتعين ألا يفتي فيها إلا أهل العلم والحكمة .. ولأن مجرد حفظ النصوص لا يكفي لإعطاء الإجازة للفتوى ما لم يصاحب ذلك حلم وعلم وحكمة مع رجاحة عقل ونفاذ بصيرة ، فإننا لم نبتل إلا من بعض هؤلاء الحفظة الذين عدوا أنفسهم من أصحاب العلم والفتوى لمآرب شتى ، فأغراهم إنصات العامة لهم للتمادي في غيهم ، فضلوا وأضلوا مثلما حدث المصطفى - عليه الصلاة والسلام - .. إن خطورة الفتوى بدون علم لا تقل عن خطورة فقدان الأمة للعالم الرباني الذي ينير لها الطريق ويبصرها بالمنهج الرشيد من بين السبل المعوجة الكثيرة ، وتكمن خطورته في أنه يتكلم مستنداً على نصوص مقدسة يكسي بها فتاواه ، باستدلالات خاطئة وجهل بالواقع مطبق ، فيضفي على أقواله هالة من التقديس في مواجهة مخالفيه .. ولكن الذي يبشر بالتفاؤل رغم عظيم المأساة أن الأمة لا تخلوا أبدا من هداة كالنجوم ، أقدامهم راسخة ورؤاهم مستبصرة بهدي الشرع الحنيف ، تعرفهم الأمة بوعيها ، فتحفهم بالرعاية والاتباع والتسديد ، في حين تزدري المتفيقهين بعدما ينكشف زيفهم ، وتصطدم فتاواهم النشاز بأحداث الواقع الفاضحة التي لا تقبل التأويل ، وعندها لا يصح إلا الصحيح لكن وللأسف بعد سقوط ضحايا كثر ، ضلوا بفعل هذا التجهيل والقول على الله بغير علم فالله حسيبهم .. والله أعلم.

ص ب 31886 الرياض 11418
فاكس : 4272675


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved