لعل من مساوئنا - نحن العرب- العديدة، هي ألا نتذكر وننوّه ونكتب عن مميزات ومحاسن وإنجازات من تحب أو نحترم إلا بعد رحيلهم عن دنيانا، هذه العادة المقيتة تجعلنا دائماً أن ننتظر الوقت المثالي- الموت- الأكثر أمناً، وليس بالضرورة الأكثر صدقاً، لكي ندلي بالشهادات وندون التجارب والقصص عمن كنا نعرفهم، مع أن الورد- كما يقال- لا ينبت على القبور.
على أنني اكتب عادة في الفكر والسياسة والقانون، وليس من عادتي أن أكتب مادحاً هذا الشخص أو ذاك، فما بالك بأمير شاب طموح، ولكن يبدو أن فيصل الأخ والصديق- والذي احتفلنا بزواجه بالأمس - هو استثناء في حد ذاته.
كما أن العريس ليس في حاجة لقراءة المقال، كونه في طريقه لقضاء شهر العسل، فالمقام هنا ليس للتهنئة فهي قد وصلت مباشرة، وإنما هو بوح وهمس ونفثة صدر، وبمقدار ما تحكي الماضي، فإنها تشير إلى الآتي، وهي قراءة لمعرفتي به لسنوات عديدة، حيث نُسجت علاقتنا بشيء من التنوع والتلاقح الثقافي والفكري، وان كان لكل إنسان بعض الملامح والعادات التي تميزه عن غيره، فإن ما يميز فيصل هو عشقه الدائم للمعرفة واحترامه للوقت، فتجده مليئاً بالحياة ويفج بالحركة، وبمقدار التفرد الذي يمثله من حيث السلوك والعقلية، فإنه، بذات الوقت، ممثل لجيل سعودي قادم بقوة لما ينطوي عليه ذلك الجيل من أحلام كبيرة ومن إصرار وعزيمة في مواجهة تحديات الزمن.
إن تجربة فيصل الحياتية ونجاحه فيها بمقدار ما تتعلق به شخصياً، فإنها مرآة لجيل بأسره، وبقدر ما يشكل حضوره تفوقاً وتميزاً، فإنه يعكس حجم الطموحات التي يرنو إليها هذا الجيل، وإن كان الأخير في أحلامه أكبر من طاقاته، ورغباته أوسع من إرادته، إلا أن شعاره هو التخلي عن الأوهام، والتمسك بالعمل الجاد والحركة والفعل والمحاولة وان خالطها شيء من الخيبات، فهذا لا يعني نهاية العالم، وفي المحاولة يكمن سر على أنني موقن رغم نجاحات فيصل في إدارته للشركة الصحفية الكبرى للأبحاث والنشر وشقيقاتها الأخرى، وديناميكيته الفاعلة في التجديد والابتكار، فضلاً عن نشاطه في العمل الإنساني، إلا أنني أجد مكانه الحقيقي في عالم البحث والتحليل والتعليق، وقد خبرته قبل توليه رئاسة المجموعة، مسافراً وباحثاً عن مخطوطات موثقة لكتابه الذي نشره قبل بضعة أشهر، ناهيك عن نهمه للقراءة ومتابعته لما يُكتب ويطرح، فهو مسكون بالفكر والثقافة ولعل قربه اللصيق بوالده الأمير الحكيم سلمان، أثرى فكره وصقل أدواته، فجعل من بداياته غير متناقضة أو ملتبسة، مما جهّزه لمحطته التالية.
لا يكبر الإنسان وفق تقويم اليوم والسنة، وإنما حسب الإنجازات التي يحققها، والتجارب التي يعيشها، والبشر الذي يلتقيهم، وهكذا قدر لهذا الأمير الشاب أن يغادر محيط الجامعة ليتبوأ منصباً مهماً، فأنشأ مركزاً لتدريب الصحفيين السعوديين، بل وتجاوز في دعمه للشباب بأن عيَّن مجموعة من الشباب في مناصب مهمة بالشركة، وهي خطوة جريئة تحسب لفيصل من حيث النظرة إليها أو التعامل معها.
ذات مرة كنا نتحدث عن قضايا محلية، فاندفع بنا الحوار إلى طرح فلسفي وكيفية الرؤية إلى الأشياء وكيفية الحكم عليها، فأجابني أن طريقته في الحكم على الأشياء تكمن في بنيتها (structural ) وليس أشكالها (cosmetical)، وعقلية كهذه تعطي لنا الأمل والثقة بمستقبل هذا الوطن الذي يستند على أسرة آل سعود كمؤسسة سياسية وليس كعائلة حاكمة.
تأملات عميقة ولمعات بارقة لا تلبث أن تجتاحني بعد كل لقاء يجمعنا، حيث إن القاسم المشترك هو معرفة الحقيقة فيكون النقاش والحوار في قضايا شتى، وفي مناخ صريح وواضح وجدلي بطروحاته، فأجد أنه يفاجئني بمنطقه الموضوعي المتماسك وفكره الفعال المتوازن الذي بدأ لي عميقاً وفاعلاً وحقيقياً وجوهرياً لا سطحياً وعابراً.
كما أن المثير فيه أن طريقته في استقاء الأخبار لا تقتصر على القمة، بل تتجاوزها إلى المجتمع بشرائحه المتنوعة، وهذا ما يجعل الصورة لديه شاملة وليست مجزأة.
على كل حال، هذه كلمة اقرب إلى البوح، وهي بمقدار ما تحكي تجربة أخ وصديق فإنها تكشف حياة جيل بأحلامه ومحاولاته وتحدياته، والحياة هي جامعة بذاتها، ولصرامة قوانينها، فنحن مضطرون لننسجم مع عوالمها ومحطاتها، وفيصل دشّن محطة بالأمس، وكأنه يهيئ نفسه لمرحلة تالية تحفل بعبق الزمان وتحديات الزمن..
مبروك يا فيصل.. وحياة باسمة أجمل.
|