لا يختلف أحد مع أحدٍ على وجه الأرض على حبِّ الوطن، والحرص عليه، والعمل على استقراره وأمنه وتطوُّره، فالإنسان يحب وطنه الذي في رحابه وُلد، وتعلَّم، ومنه انطلق إلى الحياة، بل إنه يحبُّه ولو لم يولد فيه ما دام وطناً لآبائه وأجداده تربطه به وشائج من المشاعر لا تنقطع.
والوطنية التي تعبِّر عن هذا الحب الموزون للوطن شعورٌ فيَّاض يمتلكه الإنسان المخلص لوطنه، الذي يحدُبُ عليه ويحنو كما تحدُب الأمُّ على أولادها وتحنو.
ولكنَّ هذه الوطنية إذا أُحيطت بالمبالغة والغلو حتى تصبح ديناً أو ما يشبه الدين، وحتى تصبح مقدَّمة عل العقيدة والمبدأ، فإنها تتحوَّل بهذه النظرة إلى انحرافٍ في المنهج يحتاج إلى تقويمٍ ومعالجة، وإلى مواجهةٍ قوَّيةٍ بالبيان والإيضاح حتى لا تصبح معضلةً مستعصيةً على الحلِّ.
إنَّ للوطنيَّة شعوراً خاصاً عميقاً يرتبط بمسقط الرأس ومراتع الصبا، ومقرِّ الأهل، وهذا الشعور يتساوى فيه البشر جميعاً مهما كانت ظروف ارتباطهم بأوطانهم، ومهما ابتعدوا أو أبعدوا عنها، ومهما كانت معاناتهم ومتاعبهم فيها، وتتساوى في هذا المعنى للوطنية البلاد كلُّها، فما من بلدٍ إلاَّ وهو حبيب إلى أهله، وما من وطنٍ إلا وهو عزيزٍ على أبنائه.
ومقابل هذا الشعور الخاص العميق بالوطنيَّة، شعور عام عميق بها، ولكنَّه يرتبط بالعقيدة والمبدأ، وبالمصالح العامة التي يترتب عليها استقرار الناس وهدوؤهم، وهنا تتَّسع دائرة الشعور بالوطنيَّة، ومساحة الوطن الذي يحبُّه الإنسان وينتمي إليه، فنحن نعرف آلاف الأسر العربية التي استقرت في المملكة العربية السعودية، للعمل، أو هروباً من أجواءٍ سياسيةٍ مضطربة عاشوها في أوطانهم الأصلية، أصبحت ذات إحساسٍ عميق بالحب للوطن الذي عاشت فيه آمنة مطمئنة، وصار هذا الإحساس أعمق عند أولاد تلك الأسر الذين وُلدوا في المملكة ونشأوا فيها حتى أصبحوا لا يستطيعون العيش في غيرها، ومع ذلك فإنَّ حبهم لوطنهم الذي هاجروا منه ثابت في قلوبهم، وكلا الشعورين يتكاملان في القلوب ولا يتعارضان أبداً.
وهناك وطنية عامَّةٌ تستمد شموليتها من القيمة الخاصة للبلد الذي ترتبط به، ألا وهي وطنيَّة الأراضي المقدَّسة التي يشعر بها كلُّ مسلم في كل زمانٍ ومكان حباً وتقديراً، وحرصاً عليها، ورغبةً في استقرارها وسعادتها، فكل مسلمٍ على وجه الأرض يشعر بهذه الروح الوطنيَّة الشاملة العميقة الصادقة نحو مكة والمدينة، بل نحو المملكة العربية السعودية بصفة عامة، وهذا أساس ما نعبِّر عنه بالخصوصية لهذه البلاد، هذه الخصوصية الفريدة التي يحلو لبعض المستغربين من أبناء المملكة وغيرها إنكارها ومحاولة الشغب عليها.
هكذا تكون الوطنية الراشدة، شعوراً فيَّاضاً صادقاً، وعملاً جادَّاً لخدمة الوطن ينبثق من ذلك الشعور، وحرصاً خالصاً على مصلحته.
أما الذين يكتبون عن الوطنية بما يوحي بتقديسها، واعتبارها أساساً للحياة المستقرة يقدِّمونه على الدين والعقيدة فهم يحتاجون إلى تصحيح هذه النظرة، ومراجعة نفوسهم فيها، حتى يتمكنوا من معرفة الحق في هذه المسألة والرجوع إليه.
إشارة :
لك النَّبْعُ في أرض الأماني فلا تخفْ
فيومُك غيثيُّ السَّحابِ مَطيرُ |
|