تتسم الشخصية العراقية كما يعرف دارسوها بنزعة كبيرة نحو الاستقلالية وحرص شديد على الفردية وهي ظاهرة تاريخية ذات جذور موغلة في أعماق الماضي التليد، وقد أضفت تلك الظاهرة على المجتمع العراقي درجة عالية من الحيوية والفاعلية تتجاوز أحياناً حدود المعقول فتغدو انفلاتاً يرفض معه كثيرون مبدأ التأطير التنظيمي بدعوى إن فيه إذعاناً للآخر، ولعل ذلك يفسر كثرة ما مر بالعراق من ثورات واضطرابات من ناحية، وسبب نشوء أنظمة حكم استبدادي تعاقبت على البلاد خلال مقاطع طويلة من مسارها التاريخي من ناحية أخرى، وتشكل هذه الظاهرة أحد الأسباب الرئيسة لما تشهده الساحة السياسية العراقية حاليا من تشرذم سياسي عجيب جعل عدد (اللافتات) الدالة على (أحزاب) علنية يبلغ في هذه اللحظة مائتين واثنتي عشرة لافتة، فضلاً عن عشرات من المنظمات السرية والجمعيات مختلفة الأسماء والأشكال.
وليس في هذا التعدد المنفلت - من حيث المبدأ - ما يخيف بل لعله ظاهرة صحية في هذه المرحلة، فهو يتيح للآراء التي كتمها الخوف زمناً طويلاً وأبقاها حبيسة الصدور أو الجحور أن تظهر للنور، وتتفاعل فيما بينها، بما يخفف من حدة الاحتقانات التي كانت تبدو مزمنة، وسيؤدي ذلك التفاعل حتماً إلى بلورة القواسم المشتركة بين تلك الآراء، وتبنى الكيانات السياسية عادة على تلك القواسم المشتركة، إذا لم يتحول التشرذم إلى حالة مستعصية تجر إلى عجز معيب يشل القدرة على تفعيل أي قاسم مشترك وتحويله إلى طاقة خلاقة تتضمن كافة امكانات المجتمع الفعالة.
ويكفي مسح سريع لبرامج وآراء القوى السياسية المختلفة في العراق الآن لتميز قاسم مشترك يجمع أغلبها، فباسثناء قلة قليلة تبنت الموقف الأمريكي بشكل كامل تطالب كافة القوى بانهاء الاحتلال وعودة العراق سيداً مستقلاً موحداً، ولكن ذلك الإجماع يتوزع بعد ذلك على تشكيلة واسعة من الرؤى حول وسائل الوصول إلى ذلك الهدف، وهو أمر طبيعي أيضا، يمكن تطويق سلبياته بالتأكيد على الرئيس دون الجزئي، إذ تقوم الجبهات الوطنية الواسعة في مرحلة السعي من أجل الاستقلال عادة على أرضية الأهداف المشتركة الواسعة وترك التفاصيل المثيرة للخلاف إلى مرحلة لاحقة.
لقد انفض الآن مؤتمر شرم الشيخ دون ان يتمخض عن نتيجة عملية محددة تؤدي لانفراج سريع، ولعل الشيء الأهم الذي توصل له المؤتمرون هو اعترافهم بحقيقة أن مصير العراق يقرره بدرجة أساسية الشعب العراقي نفسه، ومن هنا جاءت الدعوة إلى عقد مؤتمر لكل القوى العراقية للتفاهم على برنامج وطني واسع يخرج الأطراف المختلفة للأزمة من ذلك المأزق المستعصي، وبذا فإن المهمة الملحة الآن هي أن تتداعى كافة القوى العراقية التي ينتظمها ذلك القاسم المشترك لوضع برنامج مرحلي واضح المعالم يحشد كافة الطاقات الوطنية لتحقيق هدف التحرير والاستقلال، ويحسن بتلك القوى وهي تتأهب للحوار الواسع أن تضع في اعتبارها عدة حقائق واقعية لا يمكن القفز من فوقها وهي:
1- استحالة إجلاء القوات الأجنبية عن العراق دون تهيئة قوة بديلة تملأ الفراغ السياسي والأمني لحين تشكيل حكومة عراقية قادرة على بسط سيطرتها على أطراف البلاد بقواها الذاتية.
2- إن الجهة المقبولة الوحيدة التي يمكن الركون إليها في هذا الشأن هي الأمم المتحدة وقد لامس مؤتمر شرم الشيخ هذه الحقيقة حين أكد على دور الأمم المتحدة.
3- إن جلاء القوات الأجنبية عن العراق لن يكون دون ثمن، فذلك مخالف لطبيعة الأمور وقواعد السياسة، فيجب على كل الأطراف العراقية ترويض أنفسها على تجرع ذلك الدواء المر، كما يجب عليها ان تظهر مجتمعة حرصها لأقصى حدود الممكن على ألا يكون ذلك الثمن فادحاً.
دعونا - نحن العراقيين - نتحرر قليلاً من أسار فرديتنا، ونسارع لإنجاز هذه المهمة الملحة، إنه تحد كبير ولا مهرب من الاستجابة، وإلا فهو الفناء.
(*) سياسي عراقي مستقل |