* حنان بنت عبد العزيز السيف :
يولد الإنسان وهو مزود بقدرات عقلية متميزة، وبإمكانات عظيمة تتواصل وتستمر بغير انتهاء وانقراض، ويمنح الله هذا الإنسان مواهب شتى، وقدرات عدة، والأعظم من هذا وذاك سمة الخيال التي تجعل الإنسان يسبح ويحلق في فضاءات فسيحة، وعوالم رحبة، وتظل مواهبنا وقدراتنا مدفونة في داخلنا، مخزونة في خبايا نفوسنا، وتحتاج إلى طاقة جبارة لترى ضوء الشمس، ونور النهار، ومن شأن هذه القدرات الكامنة أن تتحول إلى طاقة إبداعية وابتكارية، في عالم العلم والتكنولوجيا الحديثة، وسط عالم يموج بتيارات العنف والقلق والإرهاب، وحتى تخرج هذه الطاقات المكتوبة لا بد من الالتحام بالواقع الذي يعتبر نقطة البدء، وذلك من أجل تجاوزه والعلو عليه، وتعتبر سمة سلامة النفس وسلامة الصدر غاية وهدفاً نصبو إلى بلوغها وبلوغه بما خصصنا به من نزوع فطري نحو تحقيق الذات، ويمثل القلق الاجتماعي أو الرهاب الاجتماعي النواة في عصاب القلق الذي يعتبر القاعدة الأساسية والمشكلة المحورية لكافة الأعصبة، والمحور الدينامي للعصاب النفسي ليس في الأمراض النفسية، بل في أفعال الناس السوية وغير السوية، فالقلق هو القاسم المشترك في جميع الاضطرابات النفس جسمية، والاضطرابات النفسية والاختلالات العقلية والانحرافات السلوكية، فالقلق هو المحرك الأساسي لكل سلوك سوي وغير سوي عند الإنسان.
والناظر في تاريخ علم النفس يرى أن علماء النفس ركزوا اهتمامهم على الجوانب الإيجابية في طبيعة الإنسان من حيث تحقيق الذات، عن طريق استثمار طاقاته وحسن توظيفها، وتأصيل المعنى والقيمة والسعي والاستمرارية ليتجاوز الإنسان ما هو كائن لبلوغ ما ينبغي أن يكون، ووجد علماء النفس في معطيات الفلسفة الوجودية المضمون التصوري لما يمكن أن يكون عليه الإنسان من حيث هو نزوع مستقبلي يتجه صوب تحقيق الذات بنداء فطري لا راد له، وحياة الإنسان تكمن في هذا المعنى، وأن فقدان المعنى يعني الوقوع في أسر الفراغ الوجودي، وهو عبارة عن حالة من الملل والسأم حيث يشعر من يخبرها بأن الحياة تمضي بغير معنى أو هدف، وأنها تتسم بالركود والملل، ومن خلال رأي العالم ماسلو (maslow 1954)، فإن تحقيق الذات هو دافع الوجود الإنساني وجوهر فطرته، ولهذا فإن العالم ماسلو استخدم مفهوم الذات للكشف عما يوجد في داخل الإنسان من خير محض، ومواهب خلاقة، وقدرات مبدعة وإمكانات كامنة، وتأثر علماء النفس بتصور القلق عند الوجوديين وبدا هذا التأثير واضحاً جداً عند العالم (فرانكل)، (1983م) الذي نظر إلى القلق شأنه شأن الوجوديين بأنه عرض الوجود الإنساني وهو كامل ومتأصل وملازم لوجود الإنسان، وهو نضال الإنسان ضد العدم المتربص به، وأنه طاقة خلاقة تحفزت إلى الحركة والنشاط المبدع، وأن كافة منجزات الإنسان الخلاقة، كانت مدفوعة ومعبأة بقلق دافعي، متوهج بالرغبة إلى الإبداع وتقديم الجديد، ويعتبر الإنسان من خلال هذا المنظور الفلسفي الوجودي هو الكائن الوحيد الذي يصبو إلى أن يكون غير ما هو عليه، ولهذا يقول العالم يسبرز (1967م): (ليس هناك موجود بشري بمعزل عن السمو، وعند العالم (سارتر)) (الإنسان كائن يسمو دوماً عما هو عليه) وتقول (سيمون دي بوفوار) إن الوجوديين يؤكدون أن الإنسان ما هو إلا سمو، فحياته تجاوز للحاضر صوب المستقبل، وهذا راجع إلى أن الإنسان عند (سارتر) مشروع وجود لم تتحدد ماهيته بعد، أي لم يتحدد وجوده الزماني بعد، ومن ثم فهو حر وحريته تتجاوز ذاته، ويعلو بهذا على نفسه، ويفترق عن ماضيه، ويصوغ لنفسه هوية في الحياة، فلا توجد طبيعة قبلية بشرية محددة، فشكل من خلال القياس عليها حياتنا، وبهذا فحرية الإنسان ليست مطلقة بل هي مشروطة وملزمة، وحرية الإنسان من هذا المنظور تعني أن الإنسان مبدع القيم لنفسه، وأنه سيد الموقف فهو الذي يحدد مصيره ومستقبله.
وتعتبر الأنا عصب حياة الإنسان الإبداعية والابتكارية، بل هي محور تفجير طاقات الإبداع داخل النفس البشرية، وهي أيضاً مستقر إيجابية الإنسان المبدع، وتأكيد الإمكانات وبزوغها من حيز الكمون إلى حيز تحقيق الواقع، وبهذا تعتبر (الأنا) وسيطاً فعالاً بين الفرد والجماعة والواقع، والوسط لا يكون إلا بين ضدين، وما من شيء يحكمه التوسط إلا كان المنطق والعقل لبابه، وهذه حقيقة تمليها طبائع الأشياء في الوجود الكوني والإنساني، ولهذا فإن الاتزان الانفعالي تعبير سلوكي عن قوة الأنا، وهذا الاتزان من شأنه أن يحقق للفرد إحساساً متيناً بتقدير الذات، ومن خلال تقدير الذات، يكون الفرد قادراً على تأكيد نفسه في الفكر والسلوك والمواقف، وحتى يكون الفعل متوازناً، قادراً على تأكيد الذات وتحقيقها، يجب أن يتسم بالمعنى، والمعنى هو العامل الذي يضفي على أفعالنا دلالة وخصوبة وامتلا.
، وهذا ما نص عليه العالم (فرانكل) (1982م)، وحينما تتكون هذه الأبنية المثالية داخل الفرد، وتتحكم في خلجاته النفسية، ومشاعره الذاتية، تكون هادفية الإنسان وإيجابيته خلاقة، وتظهر على شكل إبداع يتجسد فيه المستقبل وبالتالي فمستويات الإيجابية ليست منفصلة بل متصلة بحيث يدفع بعضها البعض، وتأخذ رقابها برقاب بعض مندفعة إلى الإبداع كأسلوب راق من أساليب الحياة، ويعتبر الإبداع في صميمه تجسيداً للمستقبل، لأنه يحمل في طياته توجهاً نحو المستقبل، وانسلاخاً من الماضي وبالتالي فهو ينطوي على المواجهة، أي بعبارة أخرى مواجهة ما هو كائن لبلوغ ما ينبغي أن يكون، وهذه المواجهة تنطوي على مخاطرة، ومن ثم كان الإبداع في صميمه إبحاراً ضد التيار، ويتصف الفعل المبدع بسمات لعل من أهمها: المرونة والأصالة والاستمرارية والطلاقة والحساسية للمشكلات، وبهذا يتصف المبدع بسمات عقلية وانفعالية لعل من أهمها الميل إلى المخاطرة واقتحام المجهول وتحمل تناقضات نفسه، والثقة بنفسه وبقدراته، وهو يتقبل ذاته ويقدرها وهذا التقدير تشويه ميزة الفاعلية والاتزان، ومن هذا المنطلق اهتم علماء التيار الإنساني كل الاهتمام بالبحث عن الجوانب المضيئة والنواحي المشرقة في صلب تكوين الذات الإنسانية، وعن الإيجابية في طبيعته، وعن سعيه لاستثمار طاقاته وحسن توظيفها، وعن تأصيل المعنى والقيمة والاستمرارية والتطور ليتجاوز الإنسان ما هو (كائن) لبلوغ (ما ينبغي أن يكون) ولهذا فهم ينظرون إلى الإنسان باعتباره كائناً في حالة من العلو والتسامي، وأنه يستطيع أن يتجاوز ماضيه ويتجه بكل طاقاته صوب المستقبل، ولهذا فإن الإبداع كما يتصوره أصحاب هذا التيار من الممكن أن يكون جماهيرياً، يعيشه الناس كأسلوب حياة متدفق بالمعنى، متجدد بتجدد الحياة، وتؤكد بعض الدراسات النفسية التي طرقت هذا المجال على أن الإبداع عملية عقلية تبدأ بمعرفة المشكلة التي تستثير المبدع، وتسترعي انتباهه، وتشغل تفكيره، ثم هي تنتهي بتقديم الجديد، كما أن المشاكل الملفتة لنظر المبدع تكون مختلفة فمنها السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفنية، ولهذا يرى العالم (تورنس) (1967م) أن الإبداع هو العملية التي تتضمن الإحساس بالمشكلات والفجوات في مجال معين من مجالات الحياة، ومن خلال هذا الإحساس تتكون بعض الأفكار والفروض عند المبدع والتي من شأنها القيام بمعالجة هذه المشاكل، واختبار هذه الفروض ثم إيصال النتائج والحلول إلى الآخرين.
والإبداع ظاهرة مركبة متعددة في جوانبها، مختلفة في معانيها، وذلك حسب اختلاف الأطر الثقافية لدى العلماء والباحثين الدارسين في هذا المجال، ورغم تباين العملاء واختلافهم في وضع معان محددة للإبداع، إلا أنهم يتفقون على حقيقتين مهمتين لكل عمل وإنتاج تنطبق عليه ظاهرة الإبداع والابتكار والنبوغ وهما:
الأول: أن يكون جديداً حديثاً.
الثاني: أن يكون له قيمة.
والجدة أمر نسبي غير مطلق، إلا استحال التطور والتقدم إلى أمر يبحث عن كل جديد، دون الاهتمام بغيره، ومحاولة تطويره والنظر فيه وتحسينه، ومن خلال الجدة والحداثة تكون دلالة الإنتاج الإبداعي محصورة في قيمة الشيء، وتعني هذه القيمة الكم لا الكيف، غير أنه ليس بالكم وحده يكون الإبداع.
ويتوقف الأداء الإبداعي على المبدع ولا يقوم إلا من خلاله، وذلك بوصفه الكائن الوحيد في هذا الكون الفسيح المترامي الأطراف والذي يصبو دائماً إلى أن يكون غير ما هو عليه، وبالتالي فإن الفرد المبدع يتسم بسمات انفعالية تميزه عن غيره، وبهذا يستوجب الأداء الإبداعي عنده متطلبات عديدة من أهمها:
- الانفتاح على الخبرة من غير جمود أو تعصب، بل بتسامح وقبول للآخر، والتقويم الداخلي للقدرات حيث تتوفر القدرة القوية والدقيقة على النقد الذاتي، والتمحيص النفسي.
- القدرة على التعامل الحر مع المفاهيم والعناصر.
ولهذا يحدد (ملكويه وكروللي) (1989م) أن من أهم خصائص المبدع قدرته على كسر الفواصل بسهولة وتكوين مقولات وأبنية جديدة معرفية مركبة، وتوليد سريع للأفكار والتعبير عنها بطلاقة، ويحدد (دلاس وجاير) الخصائص النفسية، والميزات الذاتية عند المتصف بسمة الإبداع والابتكار والاكتشاف وهي التالية:
المرونة والحساسية والتسامح والمسؤولية والاستقلالية.
وأشار العالم (شو) (1989م) إلى أن أبحاث الإبداع ودراساته تجاهلت دور المشاعر والعواطف في عملية إيجاد حلول جديدة، وآراء حديثة، وقد قام بدراسة على عينة من المهندسين والفيزيائيين المبدعين، بيَّن فيها أهمية المشاعر، في التلذذ بالعمل والثقة بالنفس والسعادة الكبرى عند الوصول إلى نتائج ناجحة، وقرارات هادفة، وابتكارات فعالة.
ويتميز المبدع بحركة واعية من التأرجح بين الذات والواقع، والداخل والخارج، لا يشعر بها إلا المبدع نفسه، وهي حركة يصعب قياسها باختبارات الإبداع، لأنها قائمة في وعي المبدع، ومتأصلة بتفاعله العميق مع واقعه، لا سيما أن الواقع الاجتماعي أياً كانت ظروفه يعزز الأفكار والإبداعات الخلاقة، والتي هي نبت اجتماعي يصوغه ويحدد معالمه تفاعل المبدع مع واقعه وحضوره في مواجهة (ما هو كائن) لبلوغ (ما ينبغي أن يكون) ولهذا كانت روائع دستويفسكي وتولستوي وواقعية جوركي، وحكمة وشاعرية المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ويتجلى هذا الإبداع في ثقته بنفسه وإيمانه بشعره وذلك حين قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى شعري
وأسمعت كلماتي من به صمم
ومن نماذج الإبداع أيضاً ما وصلت إليه أصالة ميكل أنجلو، وما حظيت به من ذيوع وانتشار، كذلك تفرد دافنشي، وأستاذية عميد الأدب العربي طه حسين وتألقه.
وأخيراً جاءت كتابات علماء النفس الإنسانيين، ومقولات علماء الفلسفة الوجديين مواكبة لما ساد العصر الحديث، وعالم اليوم من دمار نفسي ومعنوي وقيمي إبان الحرب العالمية الأولى والثانية، ونتيجة لهما ساد العالم حالة من القلق العام، غير أن هذا القلق والتوتر ينطوي على رؤية متفائلة بمستقبل أفضل للإنسان في سعيه وتأكيده لإمكاناته وطاقاته وتفجيره لقدراته الخلابة والخلاقة.
مرجع الدراسة
الهوية والقلق والإبداع.
تأليف: الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم عيد.
الطبعة الأولى عام 2002م، الناشر دار القاهرة - مصر العربية.
ونستضيف في هذه المادة البحثية شخصية سعودية مهمة مبدعة مبتكرة، وهو الأستاذ الدكتور عبد الله بن سلطان السبيعي.. أول بروفيسور في الطب النفسي على مستوى منطقة الخليج العربي، وهو زميل الكلية الملكية للأطباء النفسيين بكندا، استشاري وأستاذ الطب النفسي بكلية الطب والمستشفيات الجامعية ورئيس المجلس السعودي للطب النفسي.
وقد وجهنا إليه السؤال التالي:
* من خلال ما ورد في الدراسة السابقة هناك مقولة فحواها: (يمثل القلق الاجتماعي أو الرهاب الاجتماعي النواة في عصاب القلق والذي يعتبر القاعدة الأساسية والمشكلة المحورية لكافة الأعصبة، والمحور الدينامي للعصاب النفسي ليس في الأمراض النفسية بل في أفعال الناس السوية وغير السوية) فما تعليق الدكتور (عبد الله السبيعي) على هذه المقولة السابقة؟
- وجاء التعليق على المقولة الآنفة الذكر كالتالي: (لا أعتقد أن القلق الاجتماعي نواة في عصاب القلق ذلك ببساطة أن هناك من الأمور التي يمكن أن يتمحور حولها القلق غير النشاط الاجتماعي أو الصورة الاجتماعية القلق على الحياة أو الصحة أو على الأولاد أو الممتلكات أكثر أهمية من الحفاظ على صورة اجتماعية معينة، وهذه الأعصبة المرتكزة حول الصحة أو الحياة أو الممتلكات أو الأولاد لها وظيفة حيوية لحماية الذات أو القدرات أو النسل، بينما لا يحمل الرهاب الاجتماعي مثل هذه الأهمية، والحقيقة أن الرهاب الاجتماعي من صنع الإنسان ولعله الوحيد من أنواع الرهاب أو العصاب الذي لا يحدث في المخلوقات الأخرى، ولذلك نرى أنه يكثر في المجتمعات التي تعطي أهمية للرقيب الاجتماعي والتقويم الخارجي على حساب الرقيب والتقويم الداخليين، الطفل يراقب والديه وهما يتحدثان أو يتصرفان بخوف مع الآخرين، فيتعلم أن يكون مراقباً جيداً ودقيق الملاحظة لعلامات الرضى أو عدمه في عيون الآخرين، ويعطيه أهمية كبيرة على حساب رأيه هو في نفسه وسلوكه وقوله.
إذاً فالرهاب الاجتماعي في الحقيقة نوع متطور من الرهاب يتعدى الأنواع الأولية المهتمة بالحفاظ على الحياة والتناسل إلى منهج فكري سلوكي يحتقر الذات عند مواجهة الغير.
وكما في المقولة فإن أفعال الناس السوية وغير السوية لا بد أن يكون فيها قدر من الاعتبار للآخرين، هذا الاعتبار المتوازن عند الأسوياء ما يجعلهم يختلفون عن المندفعين والفضوليين (وقليلي الأدب) الذين يغمطون الآخرين حقهم، ولكن هذا القدر المتوازن هو ما يجعل الأسوياء أيضاً يختلفون عن الرهابيين الاجتماعيين الذين يغمطون أنفسهم حقها.
عنوان المراسلة:
الرياض (11524) ص.ب (54753) |