ربما لا نعطي بعض الأمور أهميتها، ولا نلتفت لها إلا بعد أن تمرَّ بنا، عندها فقط نقف ونتأمل وقد نتعجب..!
لا أعلم لماذا أكتب هذه السطور؟ أنا بين دهشة واستغراب، وربما أناس صغار، يقدِّمون إلينا دروساً من الحياة، فنزداد إعجاباً بهم، وقد نتعلَّم منهم دروساً في هذه الحياة..!
بطريق الصدفة البحتة، وبالتحديد من تحت نافذة غرفتي، مرت تلك الفتاة البنغالية، التي جاءت مع والدها لتقيم معه ولتعينه على تكاليف الحياة؛ فقد هجرت طفولتها، ومضت بإرادة فتاة ليست ذات خمس سنوات أو ست سنوات بل أكبر من ذلك..!
حملت ملامحها قسوة الأيام، كلماتها تتباطأ على فمها، يداها الصغيرتان لا تملان من حمل علب الحلوى أو (اللبان)، وأحياناً مناشف وأشياء أخرى للبيع. جَلد وإرادة تسبقان خطواتها لم أعهدهما في طفلة قبل ذلك..!
لم تعتد يدها الصغيرة على مسك لعب الأطفال أو بالونات ملونة، مثل باقي الصغار، وترتدي ثياباً جميلة.. بل اعتادت أن ترسم حلمها من خلال مجموعة من الأشياء تقطع بها الطريق الطويل..!
توقفت أتأمل تلك الشجاعة، وهي تجوب الشوارع العريضة، غير آبهة بأبواق العربات المسرعة، توقفت معها أياماً وتواصلنا لأعرف المزيد عنها غير أن الخفر الذي يعتريها كان عائقاً دون أن أعرف عنها المزيد..!
طفولة كبلت تحت مظلة لقمة العيش والركض خلفه، والحياة لا تعطي هؤلاء المساكين، وعليها أن تساعد والدها الذي دفعها بلا رحمة لكسب ما تيسَّر من النقود..!
لا أعرف إن كانت بالتحديد تدعى عائدة أو سهيلة فلم تحدد لي وإنما تضليل في اسمها لأن الحياة دفعت بها إلى السعي لتعيش وهي على عتبات عمرها المبكر ونسيت أن تتعرَّف مثل باقي الأطفال على لوح الحلوى ولعب الطفولة..!
غطت البراءة من قسماتها تلك الطفلة التي أراها كل يوم من خلف نافذة غرفتي تجوب بقدميها المتسختين، تنادي على ما تحمله وتأمل من الحياة أن تكون كريمة، حتى تحظى مثل غيرها من الصغيرات بفستان ولعبة وشرائط ملوَّنة، تحمل عنها أوجاع الحياة القاتمة المريرة، وهي تحت وطأة الحاجة، ولعل طفولتها تكبلها!
مرفأ
(إنها لا تشبه أحداً، إنها ما زالت تمتلك القدرة على الاندهاش والإدهاش وتمتلك الإرادة والتحدي). أحمد بحراوي
|