هاجسي أبداً مع اللقاءات، مهما تواضعت عوائدها، فالملتقون على الموائد المستديرة، قد ينقلون لغة التخاطب من دويّ المدافع إلى همس الحوار، أو على الأقل يخففون من الاحتقانات المحتملة للانفجار. وكل متابع لا تعدو عيناه إلى ما يملكه أصحاب القرارات النافذة، يظل قانعاً بما آتاه الله، فلا يكلّف المؤتمرين فوق طباعهم، فيكون كملتمس في الماء جذوة نار. والمؤتمرون أخلاط من الأقوياء ك(الثماني الصناعية)، والأقوى ك(أمريكا)، والضعفاء ك(منظمة المؤتمر الإسلامي)، والأضعف ك(جامعة الدول العربية)، و(دول الجوار).
والمقبلون على الاجتماعات أناسيّ، تحكمهم ظروف دولهم وواقع أمتهم، وهم مرتهنون لواقع يمتد ضعفه وتخلّفه منذ (المُلْكِ العضوض) الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى. والمؤتمرون في ذواتهم ليسوا ملائكة ولا شياطين، وكل وافد منهم بائع نفسه فمعتقها أو موبقها. ومن الصعب ان تقوّمهم كلمة واحدة جامعة مانعة، أو ان يشملهم حكم مطلق، فلا يندّ أحد بسابقة، ولا ينجو منتد بشعور. وإنما يحاسبون على نيّاتهم، ويقوَّمون على أساس مقاصدهم، وما بدر منهم، أو من دولهم من قول أو فعل. فمنهم المخذِّل، ومنهم المداهن، ومنهم الحريص على تأزيم المشاكل، ومنهم الساعي لإفشال اللقاء، ومنهم الملمِّع لنفسه على حساب الأشلاء والمستضعفين، ومنهم الغبي والمتغابي ومغسول المخ والخادع أو المخدوع باللعب السياسية. وقليل منهم من يحمل هماً إنسانياً، ويعرف كل من يلقى بسيماه، ويفرز الناس من لحن القول. ومع تداعيات الإحباط لا يني في السعي لحقن الدماء، ودفع الضر عن المتضررين. وشعوره بما هو عليه من شح في الإمكانيات، وهوان على الناس، ويكون كمن لا يحملون أنفسهم، ولا يجدون من يحملهم، فيتولون من المؤتمر، وأعينهم تفيض من الدمع حزناً. وكل مقبل تحكمه إمكانيات دولته، ومدى قدرته على إسماع صوته. ولهذا لا نزكّي الجميع ولا نجرّمهم، ولا نريد من حديثنا ان نحبط، ولا أن نخذل، ولا أن نشمت، وفي الوقت نفسه لا نريد من المتابعين ان يتصوروا ان مؤتمر (شرم الشيخ) سيندّ عما سلف من المؤتمرات، أو أنه يمتلك القدرة الخارقة على تصفية الخلافات، وفك الاشتباكات، وإعادة السيادة لكل من سُلبت منه ظلماً وعدواناً، وإرغام الناس على استتباب الأمن، مع صلف المحتل وعنته، ولا أن يظنوا الائتمار عملاً بطولياً، داخله مفقود وخارجه مولود، ولا أن يعدُّوه نزهة ساحلية في بلد توفرت فيه كل متطلبات الرفاهية. لقد تداعت الأمم له، ولكل مهاجر إليه مقاصده، وما أكثر مهاجري (أم قيس).
إنه في النهاية لقاء، كأي لقاء سلف، يتعثر بتعارض المصالح وجور الرغبات، وأقل ما يصفه به المتفائلون، انه محاولة متواضعة للخروج بتوصيات متوازنة، تراعي مشاعر كل الأطراف، وتحاول التقريب بين وجهات النظر. وقد يكون لمجرد تخدير الأعصاب، وتفويت أي فرصة لمزيد من الانفجارات المؤلمة.
وإشكاليته المستعصية ان المؤتمرين جاؤوا لاستعادة الأمن في العراق، وتهيئة الأجواء للانتخابات، ودعم الحكومة، وتأييد المحتل، متزامناً مجيئهم مع اجتياح (الفلوجة) وتضارب المواقف حول مشروعية اقتحامها، وهدم البيوت على الساكنين، وتقويض المساجد على المصلين، والإفراط في استخدام القوة والقصف العشوائي، إضافة إلى واقع عربي غير سويٍّ، فيه ضعف وتفكك، وكل قطر يفيض بالمشاكل، وتخنقه الأزمات، وتخيفه المصائر. وكل وافد له تغريده الذي لا يناغم غيره، إذ ليس هناك سرب واحد، بحيث يحتمل تغريد البعض خارجه.
وفوق ذلك كله ف(أمريكا) التي تحتل العراق، ثم لا تقدر على إقامة أدنى حد من الاستقرار، ولا تستطيع ان تحدد موعداً لحسم المشاكل، ولا زمناً للخروج منه، وتسليمه لحكومة شرعية قوية، تملأ الفراغ السياسي الذي أحدثته باحتلالها، وتعيد له بعض عافيته التي سلبتها غطرسة القوة. هذه الدولة القوية العاجزة، جاءت لتقرأ التوصيات قبل إعلانها، ولتفرض إرادتها على المؤتمرين. وكل مشارك إما راغب في كسبها المشوب بالحذر، أو خائف من غضبتها المضريّة الضرر. لقد عصفت رياحها، ولكنها لم تقتلع أحداً، لأن الجميع انحنت رؤوسهم، ولسان حالهم يردد: (اللهم لا أسألك إلا نفسي) الأمر الذي مكّنها من حمل المؤتمرين على دعم الحكومة العراقية، وتأييد الفعل الأمريكي، وتعليق الخروج من العراق. حتى لقد جاءت الصياغة حمالة لأكثر من قراءة. وجاء (كولن باول) في اللحظات الأخيرة من عهده، ليلقي في روع المؤتمرين ما يريده فريق الصقور الزاحف صوب (البيت الأبيض). لا نقول هذا تطاولاً على حدث عالمي، ولكنه (البدُّ الذي ليس منه بد). وما أكثر الكتّاب والمحللين الذين سيسخرون من البيان، ويشمتون بالمؤتمرين. ولو ان أحدهم تصدّر الجلسات، لسوّغ لنفسه التوقيع على بياض، وذلك مصدر الارتباك الذي يتخبط به المتابع العربي، فراكب الموج العاتي لا يقاس بمن رسا قاربه على شط الأمان، ومن رجله في الماء، ليس كمن رجله في النار، إنه زمن العض على جذوع الشجر. ومع هذا فلا بد من التفكير في مخرج، ولو كان كسَمِّ الخِياط، ولن يتحقق شيء من الانفراج إلا بالصبر والمصابرة والمرابطة والثبات على المبادئ، وما جاء نصر الله حتى استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا.
وفي ظل كل هذه الظروف غير السويّة فإن البيان لم يكن عنترياً ولا عاطفياً، ولم يكتب بإرادة عالمية حرة، إنه وسطي حمّال، كل قارئ يتصور نفسه فيه، وكل توصية فيها أكثر من قول. والتوصية التي ليس لها طعم ولا لون ولا رائحة التوصية العاشرة التي تنص على (أن ولاية القوة المتعددة الجنسيات ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية، وأنها ستنتهي وفقاً لما هو منصوص عليه في الفقرتين (4 ،12) من القرار 1546 أو مع انتهاء العملية السياسية). إنها توصية تطمينية للمغلوب، وإغرائية للغالب. ثم إن البقاء الأبدي الذي تنفيه التوصية، ينفيه التاريخ والواقع والفاعل، فليس هناك إضافة جديدة، وربط القوة بالتعدد الجنسي مجاملة زائدة لأمريكا، لأنها الكل في الكل، والتعويل على قرارات هيئة الأمم كالضغث على الإبالة، وفي النهاية فإن مثل هذه التوصية لا تسمن ولا تغني من جوع. ومن الأجدى الاستغناء عن مثلها.
والتعويل على قرار مجلس (تيمي) تقضى الأمور بغيابه، ولا يعتبر حضوره تعويل سرابي. فالمجلس لم يعد قادراً على حماية قراراته، وأحباره لمّا تزل رهينة الورق، ولا يتلقاها بالقبول المكره إلا الذين ترقبهم العقوبات والمقاطعات والضربات التأديبية، أما الشرذمة المدلّلة فمن حقها ان تقبل وان ترفض، ولديها من (الفيتو) نسخٌ موقّعة، تستلّ منها ما شاءت متى شاءت. وإذا كانت (الحرب العالمية الثانية) حملت على حل (عصبة الأمم) وإحلال (هيئة الأمم) مكانها لتتابع الاخفاقات فإن هذه الحروب الظالمة مدعاة لحل (هيئة الأمم) وإنشاء منظمات عالمية جديدة، تستأنف أعمالها، مستدبرة المؤسسات السابقة بكل ما تنطوي عليه من اخفاقات ومقترفات، فما عاد بالإمكان ترميم السمعة وإعادة العافية.
وما جدوى النازفين دماً، والمزهقين أرواحاً، والمسلوبين حرية من توصيات أُقرت قبيل الاجتماع، وتسرّبت قبل اكتمال الحضور، وفي ظل الوضع العالمي المتردي. وذلك بعض ما حفز (هيكل) على الانحاء باللائمة على الأمة العربية، ومؤاخذة مصر على تراجع دورها في آخر تأوهاته. وكل وضع حرج يحتاج إلى قرارات قوية صارمة، وتصرف حكيم حازم، يردع الظالم، ويوقف فوضى التصرف المخلّ بسلامة الأمة العربية وأمنها. لقد مجّت الشعوب العربية كل شيء، ولم يعد بوسعها أن تحتمل مزيداً من التردّيات. واللاعبون الذين أسرفوا على أنفسهم في استغلال الغباء المعتق، لم يدعوا بقية من أقنعة، حتى لقد سقطت ورقة التوت، كما يقول (التوراتيون) وبدت سوأة اللاعب، وليس من حوله ورق أشجار يخصف منها.
لقد أوجف العالم كله بالخيل والرجل والأقلام والألسنة لمواجهة الإرهاب، حتى لقد أصبح كل شيء في نظر الغرب إرهاباً، واقبل بشراسة يهدم كل شيء أتت عليه يده أو لسانه، هدماً معنوياً وحسياً، وتطوع الأغبياء النافعون - كما يصفهم (نيكسون) - بالاستجابة الطوعية لأخذ المقيم بالظاعن. إن هناك إرهاباً متعدد المصادر والاتجاهات والمستويات، وكل دولة لها مصالحها و(استراتيجياتها) ومواقفها من هذه التصورات والإجراءات. وقد لا يكون بإمكانها تمرير خطابها إلا عبر التنظيمات السرية والعمليات الإرهابية. ومكافحو الإرهاب بهذه الهمجية هم صانعوه. والمتَّهمون به قد لا يكونون الفاعلين له بمحض الإرادة. إن عالماً يواجه مثل هذه الأوضاع لجدير بالوصاية، ولن تنهض بها إلا مؤسسات عالمية مدعومة، توقف التدهور المضاعف. ومؤتمرات ضعيفة مهزوزة لا يمكن ان تشفي النفوس، ولا أن تعيد الثقة المثبتة للأفئدة.
لقد عجز المؤتمرون عن احتمال أفراد من المعارضة العراقية، ممن جاؤوا ليبلغوا صوتهم للمؤتمرين بصفتهم مراقبين أو متظلمين، وليس بصفتهم مشاركين. ولأن المؤتمر يبحث عن (مستقبل العراق) فإن أبسط أدبياته أن يسمع كل الأصوات، وليس شرطاً ان يذعن لها، ولا أن يأخذ بتطلعاتها. لقد خرجت المعارضة من مصر، وهي تشكك بالمصداقية والأمانة، والشعب العراقي ليس على قلب رجل واحد، ومن ثم فإن خطاب المعارضة سيقلل من أهمية المؤتمر والتوصيات التي تمخّض عنها. والدعوى بأن الدول المشتركة قد تسامت فوق الخلافات، والتقت على الود والمحبة دعوى لا شاهد لها، فالذين دخلوا المؤتمر دخلوا متوتّرين، يحبسون أنفاسهم، وخرجوا ممتلئين، لا يلوون على شيء مما قالوا، فهم قد أذعنوا، بل انحنوا للرياح الأمريكية. والإذعان أو الانحناء لا يعنيان الرضى والقبول، وإنما يعنيان التسليم لواقع لم يتزحزح قيد أنملة صوب الانفراج. والأمين العام لجامعة الدول العربية قال بأن هذه التوصيات تمثل الحد الأدنى للتوافق. وأحسب أن هذه المقولة مبالغ فيها، وفوق الطاقة، فالمسألة ليس فيها حد أدنى ولا حد أعلى، لكنها تسليم لا إرادي. لقد كانت له رغبات وسطية، فيها شيء من الواقعية، دفع بها إلى المؤتمرين على استحياء وتردد، ولوّح بها إلى صاحبة القرار النافذ طوعاً أو كرهاً، ولكن التعنت ضرب بها عُرض الحائط.
إن هناك مسلّمات تكرر في كل مؤتمر، وهي أشبه ما تكون بفواتح الشهية، فالاستقرار، والإعمار، والوحدة الوطنية، والسيادة، ودور الأمم، وإدانة الإرهاب بكل أشكاله، وحسن الجوار، وخفض الديون، والمساعدات الإنسانية، كلها أحلام وتطلّعات طوباوية. فالاتجاه الغربي والرغبة الصهيونية عكس ما يحلم به كل مؤتمر يبحث عن إنقاذ الأمة العربية من أزماتها الخانقة. وتلك فواتح شهية ومقبّلات لم تعد مثيرة ولا مطمئنة. وما هي إلا استهلالات تفاؤلية، كالقول للمريض الذي نفض الأطباء أيديهم منه (شِدّة وتعدّي).
نحن أمام واقع مظلم، تتضاعف فيه المشاكل، وتدلهم فيه الأجواء، وتطمس فيه الهوية، ويدمّر فيه الحرث والنسل، ويستفحل فيه الفساد، وليس هناك بوادر انفراج، فكل شيء يتجه صوب الهاوية، وكل الطرق تؤدي إلى مزيد من الدمار. ومع كل تلك الظلمات، فلسنا مع المتشائمين المردّدين لمقولة: (ليس بالإمكان أفضل مما كان). نعم لا نريد للشعب العراقي ان يتآكل عبر عمليات مقاومة عشوائية، ولا أن تُجرى الانتخابات في غياب طائفة مهمة كما أشار وزير الخارجية (سعود الفيصل)، ولا نريد لأمريكا أن تستسيغ العدوان مرة ثانية على بلد آخر ك(إيران) و(سوريا)، ولا نراهن على أن الحل الوحيد مرتبط بخروج القوات المحتلة قبل إعادة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية.
لقد أسقطت أمريكا الحكومة الدكتاتورية، ولكنها أحدثت فراغاً سياسياً مليئاً بالطائفية المتوترة، والقومية المتشنجة، والإسلاموية المتعنتة، و(الراديكالية) المتطرفة. وكل هذه الأطياف وضعت العراق في حالة من الفوضى، لا يمكن معها نفض اليد والخروج منه قبل إعادة ما فقده من أمن واستقرار، وإعادة كل خشاش إلى جحوره. لقد خلق الغزو أوضاعاً مستعصية، ولا بد للساحر ان يحل سحره. لقد كانت حكومة صدام ظالمة جائرة مدمّرة، ولكنها مسيطرة، والناس لا يصلح أمرهم بالفوضى، و(نظام جائر أفضل من لا نظام)، ولا يمكن ان نقول: إن الحل يكمن بالمقاومة على إطلاقها، ولا نقول: بأن الحل لا يكون إلا بعد خروج القوات الأمريكية، وليس من حق المتكئين على أرائكهم ان يصدروا الأحكام والتوجيهات، ولا أن يحرّضوا على القتل العشوائي، ومن الخير لكل مستاء من الأوضاع ان يتوفر على مثلث الوعي: فقه الأحكام والواقع والأولويات، وان يحترم مثلث السلطات: الدولة والدين والمجتمع، وان يعرف مقاصد الفاعلين ونوازعهم وخفايا اللعب وتماكرها. إن علينا ان نتجاوز المقاومة والوجود الأمريكي، لنقدم للعراق حلولاً جذرية، تمكّنه من استعادة ما فقده بهذا التدخل الظالم. وعلى الأمة العربية قبل هذا وبعده ان تفكر بأدوائها، ففاقد الشيء لا يعطيه، وكل نظام لا تحميه الشرعية، ولا يحكمه النظام، ولا يسيّجه العدل معرض للسقوط عند أول عارض وبأي سبب مهما كان صغيراً. وأزمة الشعوب العربية أزمة أنظمة أغرت الطامعين، وهيأت أجواء التدخلات تحت غطاءات زائفة كتوفير الحرية و(الديمقراطية)، وعلى كل مستيئس استذكار {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.
|