وفيما يبحث الفلسطينيون عن خلافة لرئيسهم الراحل المناضل ياسر عرفات، يتبادر للذهن العديد من التساؤلات والرؤى.. من بينها الرؤية لتبدل جذري في برنامج وتكتيك المقاومة؛ هل سيكون توجه الرئيس المنتخب نحو استخدام القوة القتالية في التعامل مع العدو أو نحو استخدام القوة السلمية، أم بين هذا وذاك؟
ورغم أن الحديث عن المقاومة السلمية يبدو ممجوجاً نتيجة وحشيته وقسوته المحتل.. أي محتل.. ورغم أن المقاومة المسلحة للمحتل حق مشروع لا غبار عليه ولا نقاش في مشروعيته.. إلا أن لنا أن نتساءل هل أجدى خيار المقاومة المسلحة أو العنيفة نفعاً خلال دهر من الكفاح في منطقتنا العربية؟ فعبر عقود من المقاومة المسلحة لم تتحرك القضية الفلسطينية إلا تراجعاً عقداً إثر عقد.. والعنف لم يولد إلا عنفاً في الانقلابات العربية ضد ما كان يسمى حكومات عميلة.
فالحق المشروع للكفاح المسلح ضد المحتل لا يعني أن له الأولوية في عملية التحرير.. وقانون (ما يؤخذ بالقوى لا يسترد إلا بالقوة) هو قانون سياسي نسبي يتأثر بالظروف وليس قانوناً مطلقاً ثابتاً وإن كان يمتلك شرعية ثابتة.. صحيح أن ضبط النفس أمام العنف والوحشية يعد أمراً عسيراً في التعاطي مع سيكولوجية الجماهير المتأججة؛ وهو صعب القبول والتنفيذ من الناحية النفسية نتيجة الرغبة في الثأر والانتقام لدى المظلوم واستعجاله في الخلاص.. ولكن عند اختلال ميزان القوة المسلحة والتجهيز العسكري وتفوق الخصم فإن استخدام القوة من الطرف الأضعف يؤدي إلى تأجيج الجانب القوي، الذي غالباً ما يلحق الضرر الأشد على الجانب الأضعف عسكرياً، وإن كانت هناك استثناءات كثيرة.
إن النجاح في تحييد القوة العسكرية واللجوء إلى قوة يمتلكها الجانب المظلوم.. تنبع من تنظيم طاقاته الروحية والأخلاقية والاجتماعية عبر قوة الحقيقة.. العدالة.. المحبة.. قوة الشعب والعصيان المدني.. إنها قوة طالما سحقت أعتى الجيوش لأنها ببساطة تقوم بإصابة القوة المادية بالشلل بقوة لا يمكن مجابهتها بجيوش جرارة.
سبق أن طرح رائد عوض أبو ساحلية: (نحن بحاجة إلى غاندي فلسطيني أمثال الزعيم الهندي المهاتما غاندي أو الزعيم الأمريكي الأسود القس مارتن لوثر كينغ والزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا. لقد كان عندنا مبارك عوض مؤسس المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف وكان فاعلاً في الانتفاضة الأولى وزرع بذور حركة لا عنفية نشيطة ولكنه أبعد إلى أمريكا بعد أن سجن، وكان لدينا الشهيد فيصل الحسيني الذي تمتع برصيد نضالي يعود إلى جده ووالده وما اكتسبه من خبرة وحنكة في النضال الشعبي على الأرض لدرجة أنه أصبح عنواناً للقدس، وقد فقدته المدينة وفقدناه تاركاً فراغاً لا يعوض.. لو كنت مكان القيادة الفلسطينية الحالية لدعوت السيد نيلسون مانديلا وغيره من الأخصائيين في مجال اللاعنف لعقد دورات تدريبية في هذا الفن النضالي الراقي الذي يفوق كل التدريبات العسكرية والحربية!).والحديث عن غاندي، يجرني للتطرق إلى معتكفه، حيث علقت على أحد جدرانه صفيحة قديمة عليها صورة المهاتما، وكتب عليه: (لقد أعطى للعالم فلسفة جديدة. فلسفة الكرامة الحتمية للإنسان، لكل إنسان سواء كان مواطناً بسيطاً أو قائداً، حراً أو عبداً، سواء كانت بشرته بيضاء أو سوداء، سمراء أو صفراء). ولا يزال هذا المعتكف يعج بالنشاط الهادئ وبالأدوات التقليدية والحياكة اليدوية التي أسقطت أعتى أنواع الاستعمار حين انتزعت جوهرة التاج البريطاني مدعوكة بالتوابل ومسيَّجة بالحرير.. من هذا المعتكف أسس غاندي مدرسته (الساتياراها) المقاومة السلمية أو فلسفة اللاعنف القائمة على مجموعة من مبادئ الشجاعة والصدح بالحقيقة وتبني السلم ومناهضة العنف.. رغم أن المهاتما قضى نحبه اغتيالاً، بيد بعض متطرفي الهندوس!!
وقد سبق بعض جنرالات الصهاينة أن حذر الحكومة الإسرائيلية بأن لجوء الجانب الفلسطيني إلى سلاح اللاعنف الجماهيري سيشل حركة الجيش لذلك يجب منع الفلسطينيين من استخدام هذا السلاح لسبب بسيط واضح: أن لدينا جيشاً مدرباً للحرب والقتال وليس لمواجهة الشعب الأعزل!
لذا فإن استخدام العنف والسلاح يعطي ذريعة للجيش الإسرائيلي لتبرير اللجوء إلى استخدام أقسى درجات القوة بحجة الدفاع عن النفس.ويذكر د. تومسون أستاذ علم النفس واللاعنف في جامعة ميتشغان، الذي اعتقل عدة مرات بسبب أعمال عصيان مدني ضد الحرب على العراق، (منذ سنين قامت الحكومة الإسرائيلية باتخاذ تدابير صارمة لضمان عدم تجذُّر هذه الأعمال - اللاعنفية - في أوساط الفلسطينيين.. وهذا بحد ذاته، يجب أن يلفت نظر الذين يقررون الإستراتيجية الفلسطينية). (فالعنف ينتج قيادة أقسى وأقل ديموقراطية مما يفرزه العمل اللاعنفي. كما أن الخصم ينزع لأن يكون محدوداً أكثر في استخدام القمع في وجه العمل السلمي، حيث من الصعب جداً (ولكنه ليس مستحيلاً) استخدام العنف ضد من يرفض استخدام العنف بالمقابل). ويرى أن رفض العنف يغير سيكولوجية ميدان الأحداث.. خالقاً بيئة مهيئة لسيادة السلم في إدارة الصراع.. أضف أن المقاومة السلمية طالما كسبت بعض تعاطف بين صفوف الخصم نفسه، ناهيك عن التعاطف من أطراف محايدة التي تكشف قمع الخصم وسوءه مما يؤثر في الرأي العام العالمي، كما حدث في جنوب أفريقيا.
الوقت أو الاستمرارية عنصر ضروري جداً في المقاومة السلمية، فلا يكفي القيام بمظاهرة أو مسيرة أو اعتصام ثم إعلان الإفلاس وتحديد موعد آخر بعد شهور، لا بل يجب التعبئة الجماهيرية مع الإصرار على الثبات والاستمرارية لتحقيق الأهداف المرحلية أو النهائية، مع العلم بأن الأمر قد يستغرق وقتاً ويتطلب صبراً.
لذلك لا بد أيضاً من الأفكار الإبداعية التي تعتمد على الرمزية وتنويع أساليب النضال اللاعنفي واستخدام كافة الأسلحة في ساحة المعركة السلمية، وهنا لا بد من دراسة هذه التقنيات المعروفة عبر التاريخ وابتكار وسائل أخرى مناسبة لواقعنا تتكيف مع المتغيرات وتتلاءم مع تطورات الأحداث.
في موقف يقرره العنف يتغلب الفريق الذي يتحكم بأكبر قدر ممكن من العنف.. وهو هنا إسرائيل.. يقول غاندي: (اللاعنف أعظم وأنشط قوة تغيير في العالم، لا يمكن لأحد أن يكون لا عنفياً بطريقة سلبية مذعنة.. سوف نفوز بحريتنا، وبسجَّانينا في هذه العملية).
|