إن فكرة الاعتماد على شخص البطل الخارق، أو ما يمكن تسميته بالرمز، إشكالية ملتبسة في خارطة ذوات البعض منا، شائعة في الفكر العربي الحديث، خاصة القومي منه، قال بها (ساطع الحصري) و(محمد عزة دروزة) و(زكي الأرسوزي)، وقد تأثر هؤلاء وأمثالهم بالفكر النازي والفاشي الذي خطف بريقه عقول البعض من رجال السياسة والفكر العرب آنذاك، ويعزوها البعض إلى فكرة الإمام الغائب لدى الشيعة، وربما تكون هذه الفكرة متجذِّرة في المخيال العربي كما قال بذلك قلة من المؤرخين. وقد وجدت هذه الفكرة - فكرة الاعتماد على شخص البطل الخارق - صدًى لها في الفكر الناصري؛ إذ ورد في فلسفة الثورة ما نصه: (إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوار بطولة مجيدة قاموا بها في ظروف حاسمة على مسرحه، وإن ظروف التاريخ أيضاً مليئة بالأدوار البطولية المجيدة التي لم تجد بعدُ الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه - ويتساءل عبد الناصر - ولست أدري لماذا يُخيَّل إليَّ دائماً أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يُخيَّل إليَّ أن هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا قد استقر به المطاف متعباً مُنهكَ القوى على حدود بلادنا يشير إلينا أن نتحرك وأن ننهض بالدور ونرتدي ملابسه؛ فإن أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به).
لستُ هنا في مقام مناقشة إشكالية الرمز في الفكر السياسي العربي، ولكنني جعلتُ ذلك مدخلاً للحديث عمن يعتبر في نظر الكثير من الكتَّاب والمثقفين الشخصية التطبيقية للرمز السياسي بعد عبد الناصر. إنه الرئيس الفلسطيني (ياسر عرفات) رحمه الله، الذي ارتبط اسمه بقضية العرب والمسلمين الأولى اليوم (القضية الفلسطينية)، ولمدة ما يقارب الأربعين عاماً. والرمزية لفظة ملتبسة تعمل تراكمية الوقائع والأحداث والسنين على تكريسها في الذهنية الجماهيرية عبر وسائل متعددة، أهمها الإعلام. إن هناك الكثير ممن لم يعرف شخصية ارتبط بها اسم فلسطين - القضية كياسر عرفات الذي نجح في أن يعطي نفسه سمتاً خاصاً يتصل بالقضية؛ إذ كانت كوفيته المرقطة ذات دلالة، وطريقة تشكيلها موحية بخارطة فلسطين، وزيه العسكري الذي تمسَّك به حتى آخر لحظة يرمز للمواجهة من أجل تحقق قيام دولة فلسطين، كل ذلك أحاطه بهالة رمزية خاصة عند أصحاب القضية ومَن يحملون الهم الفلسطيني المؤرق. أما المضمون فجزماً تختلف فيه الآراء، وهو متروك للتاريخ وللباحثين فيه للحكم عليه.
هذا من حيث السمة الرمزية، أما حصاد ذلك على الأرض فهل هو قبض الريح كما يُقال أم تأكيد للهوية وترسيخ للثوابت ووقوف في وجه المؤامرات؟ هذه مسألة ليس لي أن أقطع فيها، فثمة أخطاء تصل إلى درجة الخطايا، وثمة مجازفات تلامس سقف المقامرة، وثمة مواقف صلبة وإرادة عنيدة تعطي مؤشراً قوياً ودلالة واضحة على الصمود من أجل الوجود الكريم على ثرى القدس الطاهر. كل ذلك لا بد أن يُوضع في الميزان لنقف على المسافة الحقيقية بين الرمز والواقع.إن مما لا شك فيه أن الكتابة المسؤولة أو حتى مجرد الاقتراب من هؤلاء الرموز والقضايا التي ينافحون عنها مسألة شديدة الحساسية يجب التعامل معها بحيطة وحذر؛ نظراً لتشابك خيوطها وصعوبة الفصل بين السياسي - الدبلوماسي والجانب الشخصي لمثل هؤلاء الرجال. والمُلاحظ فيما كُتب بعد رحيل أبي عمار رحمه الله فيما اطَّلعتُ عليه من كتابات متعددة في صحافتنا المحلية غَلَبة النزوع الوجداني وعدم توخي الموضوعية عند البعض أو مجانية القول والحكم الجانح إلى التجريد الذي يعني الاحتماء خلف شهوة التنظير للتنصُّل من تبعات القول، والخوض في عباب المطلقات التي تحتمل التأويلات المتناقضة عند البعض الآخر. والحكم مني حكم انطباعي جاء على وجه العموم لا التخصيص. والحقيقة أن أمانة الكلمة تقتضي التوازن بين التجريد والتحديد، واصطناع منهج التحليل المتكئ على الوقائع المنعتقة - ما أمكن - من أسر الهوى والإعجاب بالذات الذي يصل عند البعض إلى حد التقديس المرفوض والعشق الذي يلغي التفكير العقلي المتَّزن.إن المنعطف التاريخي الذي نمر به يلقي علينا مسؤوليات جساماً، والنوازل التي ألمَّت بنا توجب على المثقف المهموم بقضايا أمته أن يعزف عن صغائر الانحيازات الضيقة والمنافع الرخيصة، ويجنح إلى توخي الحق والبحث عن الحقيقة.
وإذا كان رحيل عرفات يتجاوز في دلالاته ونتائجه محدودية البقعة الجغرافية التي ينتمي إليها إلى مساحة أوسع تحتلها القضية التي يمثلها في فكر الأمة ووجدانها فإن علينا أن نتوقف عند هذا الحدث وقفة متأملة نتوخى من خلالها إضاءة الحدث بخلفياته ونسيجه المعقَّد، ونضع أيدينا على جملة من الحقائق التي بزغت غداة مواراته الثرى في المقاطعة التي ظل رهينةً فيها لما يقرب من ثلاث سنوات؛ إذ لا يمكن اختزال أبعاد الحدث في سبب الوفاة، ومراسم التشيع ومواراة الجثمان التراب، والوعود المغلظة لنقل الجسد الميت إلى أرض القدس السليبة، والحضور العربي والعالمي المشهود. إن المهم ما بعد ذلك من أحداث، كيف ستُدار الأمور؟ وما مستقبل القضية؟ وهل سنظل معلَّقين بالرمز أم أن آلية التفكير لدى القادة الفلسطينيين ستكون أكثر دراية بنتائج المرحلة السابقة ومن ثَمَّ ستكون منهجية المواجهة؟
إن ربط القضية بمحيطها العربي الإسلامي مع أخذ تعقيدات الأوضاع الإقليمية والدولية هي - في نظري - الموجِّه نحو بوابة الأمل في التعامل مع الحدث، ذلك أن هذين البعدين (الدولي والعربي) - حسب اعتقادي - جعلا الإبحار في هذه الأمواج المتلاطمة أمراً محفوفاً بالمخاطر، وقد أدى ذلك إلى عدد من المنزلقات والأخطاء التي أثَّرت سلباً على مسار القضية. وتجسَّد الموقف المتشابك وصعوبة التعامل معهما فيما عُرف عن أبي عمار من قوله: (لَعَمْ)؛ حيث إشكالية الرفض والقبول التي أراد أن يتجاوزها بإمساك العصا من الوسط، فنجح حيناً وفشل حيناً آخر.إن ياسر عرفات الرئيس ظاهرة عربية معاصرة، ومن حق الجميع أن يتأمل هذه الظاهرة وأن يقف عندها طويلاً، لكنني أعتقد أننا لا نملك نحن الممتهنين للكتابة الصحافية البعيدين عن دهاليز البيت الفلسطيني المسجون في هذا الوقت بالذات القدر الكافي من الحيثيات التي تمكن أياً منا ليصدر حكماً ما على ياسر عرفات؛ إذ لا بد من اكتمال الصورة عبر أبعادها المختلفة واستحضار الوثائق الشاهدة على مسيرة هذا الرجل الظاهرة، وهذا لا يتأتى إلا بعد حين. لذا لا بد أن نتريث قليلاً قبل أن نصدر الأحكام، لا بد من قراءة مستفيضة في سلسلة معقَّدة مترابطة من الأحداث ذات الصلة بالقضية قبل صلتها وعلاقتها بشخص الرئيس الراحل. هذا هو منهجنا، وتلك هي سجيَّتنا أيها الزملاء، ذلك أن الكلمة رسالة، والقلم أمانة.
|