شرم الشيخ منتجع بحري جميل يعرفه السائحون، ويرتاده منهم المقتدرون لقضاء وقت ممتع نهاراً وأكثر امتاعاً ليلاً، فيريحون عقولهم المتعبة طويلاً من الانشغال والتفكير، ويعرفه السياسيون أيضاً، فيقصده من يقصده منهم لإعطاء عقولهم التي لا تكلُّ ولا تني مجالاً مناسباً للنظر والتدبير وبخاصة للتداول حول ما هو من أمور المنطقة خطير.
وكاتب هذه السطور لم تتح له فرصة ارتياد ذلك المنتجع سائحاً، لكنه لم يأسَ على ما فاته من فرصة الارتياد، ففي ربوع أخرى ما هو لديه أكثر إمتاعاً وراحةً وجمالاً، وهو - ولله الحمد - ليس من السياسيين، تأهلاً ولا ممارسة، على أنه عرف المنتجع المذكور في ضوء ما سمعه ورآه عبر وسائل الإعلام المختلفة المتناولة لما عقد فيه من لقاءات سياسية خاصة بمناقشة أمته فرَّج الله كربتها، وأيقظها من سبات غفلتها، وكان لمؤتمر قادة الأمة العربية الذي عقد سنة 1421هـ صلة بذلك المنتجع، كما كان لصدى بيانه أثر في نفس الكاتب أملى عليه قصيدة صوَّرت وقائعه في عدة مقاطع ينتهي كل واحد منها بقول: (أولسنا نحن سادات العرب؟). وكان آخر لقاء سياسي في شرم الشيخ هو ذلك المؤتمر الذي عقد الأسبوع الماضي للتوقيع على ما تُوصل إليه من قرارات بشأن قضية العراق المنكوبة باحتلال أعداء العرب والمسلمين لأراضيها، والمبتلاة بجرائمهم وجرائم منصوبيهم من العراقيين ضد مواطنيها.والاقتناع الذي ترسَّخ لدى كاتب هذه السطور هو أن مؤتمرات القمة العربية - خلال العشرين سنة الماضية بالذات - لم يسفر أيُّ واحد منها عن نتائج إيجابية ملموسة بالنسبة لقضايا أمتنا، وفي طليعتها قضية فلسطين المحورية لكل القضايا، بل أكاد أقول: إن أكثر تلك النتائج - مع الأسف الشديد - كانت سلبية، ذلك أنها اتسمت بتنازلات لصالح الأعداء، كل جديد منها أوضح سوءاً من سابقه، وتكاد المعلومات تؤكد أن بعضاً من تلك المؤتمرات كانت قراراته تملى من خلال مكالمات هاتفية تتلقى من جهات معينة ارتضت الأكثرية الفاقدة للإرادة الحرَّة أن تكون مطيعة لأوامرها وتوجيهاتها، خوفاً أو طمعاً.
على أن مؤتمر شرم الشيخ الأخير مختلف نوعاً ما عن مؤتمرات القمة العربية من حيث الموضوع الذي يراد أن تصدر القرارات حوله، ومن حيث الجهات المشاركة فيه، فالموضوع هو قضية العراق، كما سبق أن ذكر، والمشاركون فيه لم يكونوا من العرب فقط، كما لم تشترك فيه كل الدول العربية مع أن قضية العراق المتناولة قضية تهمُّ العرب كلهم، وتؤثِّر في مجمل قضاياهم ومستقبلهم، على أن هناك مسألة مهمة وهي أن الجهة التي كانت تهاتف من تهاتف في مؤتمرات القمة العربية استغنت عن المهاتفة بالحضور لأنها صاحبة الشأن الأكبر، ولأنها صاحبة الشأن الأكبر فإنها كانت متحمسة لعقد المؤتمر، إن لم تكن الآمرة بعقده، سواء كانت أوامرها مباشرة للجهات التي شاركت فيه أو عبر منصوبيها من العراقيين.
وما حدث - ويحدث - في العراق المنكوبة المبتلاة جرح آخر من جراح أمتنا التي يصعب التئامها، وهو أكثر التصاقاً بقضيتها الكبرى، قضية فلسطين. ذلك أن تحطيم أمريكا عام 1991م لقوة العراق العسكرية التي كانت الخطر الإستراتيجي الحقيقي للكيان الصهيوني - كما ذكر ذلك وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر في مذكراته - كان أكبر خدمة قدمتها تلك الدولة لذلك الكيان، واحتلالها للعراق، الجاثم الآن على ربوع بلاد الرافدين كان لمصلحة الصهاينة المحتلين لفلسطين، كما قال رئيس أركان القوات الأمريكية نفسه.
ما الذي حدث بعقد مؤتمر شرم الشيخ الأخير؟
سجل تاريخ أمريكا حافل بارتكابها عدوان دولة ضد مجتمعات ودول عديدة في العالم، وعدوانها على العراق بُني على ادعاءات اتضح للجميع أنها كاذبة، ووصفته الأمم المتحدة - وهي لا يمكن اتهامها بالانحياز للعرب والمسلمين - بأنه غير شرعي، والاحتلال الناتج عن عدوان غير شرعي نصَّب حكومة على البلد المحتل كبار بعض أفرادها - وإن كانوا عراقيين - يحملون الجنسية الأمريكية.
سيرة الاحتلال الجاثم على ربوع بلاد الرافدين، المهيمن على أمورها تعجز الكلمات عن وصف ممارساتها التي ما ظهر منها فظيع، وما خفي قد يكون أشد فظاعة: تدمير للبنية الأساسية، واغتيالات للعلماء، وقتل للمدنيين، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، وارتكاب لأقذر الممارسات في تعذيب المعتقلين والمعتقلات، وانتهاك لحرمات المواطنين وأماكن العبادة، وغير ذلك من فظائع الأمور التي لا يقرُّها دين ولا عقل.
وكانت آخر حلقة من هذا المسلسل - وهو مسلسل كل الدلائل تشير إلى انه سيظل متواصلاً - ما ارتكب ضد الفلوجة، الكثيرون شاهدوا بعضاً من ذلك عبر شاشات التلفزيون المختلفة التي عرضت فقط ما سمح بعرضه من المحتل، وكان الأمين العام للأمم المتحدة قد حذَّر من ارتكاب ما ارتكب، لكن من هو ذلك الرجل حتى يُصغى الى تحذيره.
وكان ممن تحدث عن الجرائم التي ارتكبت في الفلوجة الكاتب الأمريكي دوك لوريمر، وذلك في مقالة نشرت ترجمة لها صحيفة الوطن بتاريخ العاشر من هذا الشهر الهجري (22-10-2004م) بعنوان: (مذبحة جماعية في الفلوجة) ومما ورد في المقالة:
سبقت الهجوم الأخير على الفلوجة أسابيع من القصف الجوي الليلي استهدف المباني السكنية والمطاعم والمساجد، وتسبب في تهجير مئتي ألف من سكانها مذعورين إلى بغداد، ودمرت الطائرات الأمريكية عمداً مستشفى الطوارئ في المدينة لتضمن عدم نقل القتلى والجرحى من سكانها إليه حتى تخفي حجم الضحايا والإصابات من المدنيين، وفي المقالة ذكر مفصّل لممارسات أخرى لا يتسع المجال هنا لايرادها لكنها - على أيِّ حال - شهادة شاهد من أهلها، قبل بها المتأمركون من أمتنا أو لم يقبلوا، هؤلاء المتأمركون ما زالوا يأبون إلا أن يظلوا في وادي غرامهم بالدولة المعتدية يهيمون، وفي متاهات غيهم وتجاهلهم للحقائق يعمهون، فيردِّدون كل ما تردد أجهزة إعلامها المدعية بأن ما قامت به إنما هو في سبيل حرية العراق ورفاهية شعبها.
وممن كشف جانباً خطيراً من جوانب ما ارتكب ضد الفلوجة الأستاذ رشيد خشانة، وذلك في مقالته التي نشرت في صحيفة الحياة (22-10-2004م) بعنوان: (معركة إسرائيل في الفلوجة)، ومما قاله:
(لعبت إسرائيل دوراً كبيراً في معركة الفلوجة مباشرة أو مداورة رغم حرص الأمريكيين على إخفاء ذلك الدور، وما رشح من معلومات عن الضباط والجنود والحاخامات من ذوي الجنسية المزدوجة الذين شاركوا في المعارك وقتل بعضهم برصاص المقاومين ليس سوى القسم العائم من جبل الثلج.. واستناداً إلى إحصائيات الصحافة الإسرائيلية فإن لدى إسرائيل حالياً ما لا يقل عن ألف ضابط وجندي موزعين على الوحدات الأمريكية، وقد اعترفت صحيفة هآرتس بأن الآخرين يخفون هوياتهم اليهودية التي تجعل منهم آلياً مواطنين إسرائيليين.
وليس الدور الإسرائيلي فنياً ولا مكملاً للخطة الأمريكية، وإنما هو جزء من الرؤية التي صاغتها قيادتها العسكرية والسياسية قبل اندلاع الحرب (والأصح أن يقال العدوان) التي ترمي إلى إبطال أيِّ دور إقليمي للعراق وإنهاء أيِّ خطر يمكن أن يشكِّله عليها في المستقبل).
وفي المقالة الكثير الكثير مما هو بالتأمل جدير، غير أني أشعر بأن يدي من الكتابة عما حدث ويحدث في العراق كلَّت، وأخشى أن تكون عين القارئ الكريم مما كتبته ملَّت، لذلك أتوقف هنا لأقول باختصار:
إن الهدف الأكبر من عقد مؤتمر شرم الشيخ الأخير ليس اعطاء الاحتلال الأمريكي للعراق شرعية دولية، إذ متى اهتمت أمريكا بالشرعية الدولية؟ وليس لاسترضاء الدول التي عارضت احتلالها لذلك البلد في بداية الأمر - أو تظاهرت بالمعارضة - فمتى استرضى القوي المتغطرس الآخرين؟ والجميع يرون أن المعارضين لذلك الاحتلال أو المتظاهرين بمعارضته جاءوا في نهاية المطاف ليغيروا مواقفهم.
الهدف من عقد المؤتمر مزدوج:
الشق الأول منه: إظهار إدارة العراقيين لبلاد الرافدين وكأن لهم من الأمر شيئاً، وهي في هذا المجال سبق أن قالت إن قواتها تنتظر أوامر علاوي لتهاجم الفلوجة!، ما هذا التواضع الجم؟ القوة العظمى المهيمنة - بدرجة كبيرة - على سير الأحداث في العالم تنتظر قواتها أوامر الحاكم العراقي لمهاجمة الفلوجة!!. والشق الثاني من الهدف المزدوج أن يعلن جميع المشاركين في المؤتمر رضاهم لما ارتكبته أمريكا في العراق، ولا أدل على ذلك من أنه لم يُشر في بيان المؤتمر إلى جدول زمني لانهاء الاحتلال وانسحاب قوات المحتل من العراق، ولا إلى الحوادث المرتكبة فيه واستنكارها، ولا إلى أنه توجد مقاومة مشروعة للاحتلال.
|