التوافق الفلسطيني

لم ينقض شهر حتى الآن على رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إلا أن أسلافه استطاعوا طي الكثير من المراحل بثبات ورباطة جأش توحي بأن الصف الفلسطيني بألف خير، وأنه مثلما استطاع تجاوز اللحظات الحرجة التي تلت وفاة عرفات بما في ذلك تمكُّنه من إنجاز انتقال سلس لسلطات أبو عمار، فهو قادر أيضاً على التعامل باحترافية أكثر مع استحقاقات المستقبل المتمثِّلة بصفة خاصة في الانتخابات.
غير أن الفلسطينيين سجَّلوا نقطة مهمة عندما توافقوا على مرشح واحد لحركة (فتح) في انتخابات التاسع من يناير القادم، وعلى الرغم مما بدا أنه أزمة، لأول وهلة، وخصوصاً مع الإعلان عن ترشيح مروان البرغوثي، أمين سر حركة فتح، بعد ساعات من ترشيح محمود عباس أبو مازن، فإن المعالجة الهادئة في زنزانة الأسير البرغوثي أسفرت عن إيجابيات أخرى تضاف إلى السجل الإيجابي للقيادات الفلسطينية في مرحلة ما بعد عرفات.
ويدرك الفلسطينيون أنهم في دائرة الضوء محلياً وإقليمياً ودولياً، وقبل ذلك هم يدركون أن الحنكة مطلوبة كل الوقت إزاء رهان البعض، ومنهم إسرائيل، على انفراط عقد التوافق الفلسطييني في مرحلة ما بعد عرفات، غير أن سلامة الصف الفلسطيني تبدو أنها تلقى الاهتمام اللازم وأن المعالجات الحصيفة تجد قبولاً.
والأمثلة تبدو واضحة على هذا الحرص من خلال كل ما ذهبنا إليه وغيره، فحادثة مثل حادثة خيمة العزاء في غزة عندما تم إطلاق النار بوجود أبو مازن جرى التعامل معها بما تستحقه وتم النظر إليها في حجمها الطبيعي، وكان من الممكن أن يتم تحويل (الحبة إلى قبة)، لكن جرى إحباط أي استغلال للمسألة.
تبقى الإشارة، مع ذلك، إلى أن الساحة الفلسطينية تنطوي على ما يمكن أن ينسف كل حالة التوافق الحالية، الأمر الذي يستلزم التأمين على أن إنجازات الفترة التي انقضت منذ رحيل عرفات هي نموذج طيِّب ينبغي الأخذ به وتطويره واستنباط قواعد سلوك منه يتم الاستعانة بها فيما يستجد من أمور وفيما يعرض من أزمات ومصاعب.
وعلى كل فإن الإيجابيات التي تحققت ليست وليدة اللحظة فهي في جانب منها انعكاس لتجربة سياسية ناضجة وتعبير عن فكر نضالي له أولوياته ومحاذيره التي تتركَّز بصفة خاصة على أهمية وحدة الصف وعدم إفساح المجال لما يمكن أن يشغل هذا الشعب عن مهامه النضالية، وعدم إيجاد بدائل للعدو الأساسي المتمثِّل في الاحتلال الإسرائيلي.
وستكتسب هذه التجربة المزيد من القوة ما ظلت الروح الوفاقية حاضرة في كل تفاصيل العمل الجماعي، وستظل هذه الصيغة مطلوبة وخصوصاً مع التحركات النشطة الجارية حالياً والتي تستهدف تحريك جهود التسوية، فالجبهة الفلسطينية القوية الموحَّدة هي التي تستطيع الحفاظ على الثوابت والتصدي لمحاولات تضييع الحقوق، وهي التي تدفع العالم إلى تقدير واحترام الصمود الفلسطيني، وبالتالي اكتساب مساحات جديدة من التأييد لصالح استعادة الحقوق.