* غداً.. أكون في رحلة الساعات السبع الى (كازبلانكا)، الدار البيضاء، ثم (مراكش).. حيث ينعقد هناك المؤتمر العام الثالث ل (مؤسسة الفكر العربي) تحت عنوان عريض هو:(العرب بين ثقافة التغيير وتغيير الثقافة).
* إذا كان هناك (ثقافة في التغيير، أو تغيير في الثقافة)، عند بني يعرب المعاصرين، فهذا- عندي اليوم على أقل تقدير- هو من باب التمني، أو على سبيل التحلي..! وحتى تحين ساعة التجلي، في ظل (ثقافة تغيير حقيقية، أو تغيير ثقافة تقليدية)، فإني قبلها هنا، مغرم بالكلام عن مدينة (مراكش)، المدينة (الحمراء)، التي لم تذهب بعيداً في تشكيل هويتها العربية المميزة، أو في اختيار لونها، الذي استمدته من لون تربتها الصحراوية الحمراء، في مزج لوني دافئ، يجمع بين سواد نخيلها، وزرقة سمائها، وبسمة شفاهها، طيلة قرون مضت.
* هذه هي المرة الثانية التي سوف أرى فيها (مراكش).. بإذن الله. جئتها قبل سبعة عشر عاماً براً من جنوبيها، فاستغرقت الرحلة إليها من أغادير نهاراً كاملاً، محفوفاً بالدهشة السارة، من حقول العنب والليمون والبرتقال واليوسف، التي تحف بالطريق المتعرج بين التلال والأودية والهضاب الرملية الخضراء، فالحقول اليانعة تمتد على سفوح المرتفعات وصدور الأودية على مد النظر بين أغادير ومراكش، حتى إذا دخلت شارع محمد الخامس في قلب مراكش، وجدت أشجار البرتقال واليوسف والنخيل، هي أشجار الزينة التي تساقط على المارة فاكهة لذيذة، ونسمات عليلة.
* تستمد مراكش شهرتها بين المدن المغربية، من عراقتها التاريخية، وطبيعتها الخلابة المتباينة بين مرتفعات شاهقة، وأودية سحيقة، وصحاري خلفية، وتمتاز بكثرة الشعراء والفنانين والملحنين والرسامين والنقاشين والحرفيين، فهي مدينة حية نشطة، تبدأ حركتها مع بزوغ الشمس، وتظل ساهرة حتى تباشير الصباح.
* عندما دخلت مراكش أول مرة، شعرت أن المكان والإنسان كليهما، يهش لك ويبتسم، فأهلها أهل مرح وبهجة ونكتة، ونغمات الفنون الشعبية المنبعثة من الدور والحوانيت القديمة، ترسم روح السرور والانشراح، الملازمة لأبناء مراكش طيلة ساعات الليل والنهار.. أنت إذن في مدينة عربية إذا قالت لزائرها:(ابتسم)، فهي تعني ما تقول، وليس ادعاءً أو تكلفاً، كما تعودنا في مدن عربية أخرى.
* إن من أبرز المعالم التي تستحق الزيارة في مراكش، (ساحة جامع الفناء)، وعن هذه الساحة العجيبة، حدِّث ولا حرج..! لقد كتبت يومذاك مقالا وصفت فيه هذه الساحة بأنها (سوق عكاظ المراكشي)..! سوق في الهواء الطلق، ذائع الصيت، لا يتكرر في أية مدينة عربية أخرى، ففيه تراث عالمي فريد، فهو يجمع بين الجد والهزل، والواقع والخيال، وتتجلى في جنباته سماحة الإنسان المغربي، التي تقرب إليه البعيد قبل القريب.
* في (ساحة جامع الفناء)، كل ما هو عجيب وغريب، فهذه مشاهد من أساطير مغربية قديمة، وهذه عروض شائقة لمروضي القرود والأفاعي، وهذه الفرق الموسيقية الشعبية، تشنف الآذان في هذا المهرجان، وهذه تحف صحراوية وأفريقية نادرة، والناس يتجمعون في (الحلاقي) لسماع حكايات الناس منذ مئات السنين، بينما تعبق في الاجواء، روائح الأطعمة المغربية المميزة، فهذا الكسكسي والببوش، وهذه الحريرة وشربة الحلزون، وهذه الطنجية، أشهر طبق مراكشي.. وعلى أطراف السوق، هناك من يقرأ الكف ويستشرف الحظ، على ما في هذه الصنعة الساذجة من ادعاء وتكلف..!
* في المدينة العتيقة هنا، أحياء كثيرة، وزنقات ضيقة، يرتص على جنباتها العطارون والعشابون والنقاشون، وكل يدعي وصلا بحرفته.. بينما تتزين الواجهات، بشتى أنواع الصناعات النحاسية والفضية والجلدية والفخارية، وإذا أردت الجمع بين التسوق والتلذذ، ففي متناول يدك التمر والحلوى المغربية المتنوعة.
* هل ترغب في رحلة حول مدينة مراكش، والتوغل في زنقاتها وأحيائها القديمة..؟
* إليك (الكوتشي).. عربة تقليدية مزركشة تجرها الخيول، تسير بك في هدوء إلى حيث الطبيعة الساحرة، ففي شرق مراكش، شلالات (أوزود) الساحرة، تسكب المياه الصافية من ارتفاع مائة متر، ومثلها على بعد (47كم)، شلالات (تسي فاطمة)، وغابة (النامر)، وجبل (يكور)، حيث المنحوتات الصخرية التاريخية، وقرية (أمليل) الفاتنة في الجنوب، ثم قمة (توبقال)، التي ترتفع (4165 مترا) عن سطح البحر، فهي أعلى نقطة في الشمال الأفريقي.
أما في ذروة الصيف القائظ، فسوف ترى بعينيك هناك، قمم الجبال المكسوة بالثلوج، وتلج قرى (أغمات)، ووادي (أوريكة)، وسد (تكروكوست)، أما في الشتاء، فهذه محطة (أوكيمدن) للرياضات الشتوية.
* هذه هي (مراكش).. أسسها (يوسف بن تاشفين) عام 455هـ، وعمرها الموحدون في عهد الملك (المنصور الذهبي)، فجعل منها جوهرة الجنوب المغربي، وبنى فيها قصر (البديع) الشهير، وعرفت أوج مجدها، في عهد السعديين.
* وتتباهى مدينة مراكش، أمام الزوار والسياح، بمعالمها التاريخية والجمالية الكثيرة، ففيها قصر البديع، وجامع الكتبية، ومسجد مولاي يوسف، والمدرسة القرآنية، وبساتين أكدال، وحدائق ماجوريل، الى جانب متحف دار سي سعيد، والمدابغ التقليدية، كما تتركز حدائق النخيل في شمالي المدينة.
* إن الثراء التاريخي لمدينة مراكش، يمثل عطاء إنسانياً فريداً، خاصة وهو يتكئ على التنوع الثقافي والجغرافي والاجتماعي، الأكثر تسامحاً مع نفسه ومع الآخر. إن ليل مراكش، هو أهزوجة مليئة بالفرح، وسط الصدح الفني الشعبي كثير الألوان، الذي يمزج بين أصوله الأفريقية والعربية والبربرية.
* نحن، إذن، في مدينة تبتسم، وتدعو زوارها الى الابتسام، وبعض ما يدور في جلسات مؤتمر (الفكر العربي) هنا في مراكش إنما هو محاولة جادة لزحزحة الجمود، أو حلحلة ثقافة الركود، بحسبان الزحزحة والحلحة، بعضا من أنماط التغيير، وفي التغيير عادة، بعض من التشجيع على التسامح والابتسام.
* أيها العربي القادم من الشرق، ابتسم.. ابتسم، فأنت في مدينة باسمة اسمها (مراكش).
|