Sunday 28th November,200411749العددالأحد 16 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

شيء من شيء من
الشريعة وعلوم العصر
محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ

تدريس العلوم المعاصرة لطلبة الفقه في كليات الشريعة، وبالذات العلوم النظرية منها، أصبح اليوم في تقديري من الضرورات الملحة التي يتطلبها واقع الحال.
فالسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الدولية - مثلاً - هي اليوم من العلوم التي يفرضها العصر ويحتاجها الفقيه. ولاشك لديَّ أن ما نلحظه في الآونة الأخيرة من قصور في الرؤية السياسية والاقتصادية، وكذلك في فهم مدى أهمية العلاقات الدولية لدى بعض فقهائنا ناتج عن قصور في المقابل في فهم هذه العلوم المعاصرة، التي لا يمكن أن نتجاهلها بحال من الأحوال، الأمر الذي أفرز لنا كنتيجة هذا (التدني) المعيب في إدراك وتصور بعض طلبة العلم لدينا للعالم الجديد، الذي أصبحنا - شئنا أم أبينا - جزءاً لا يتجزأ منه.
ومن نافلة القول أن إقصاء هذه العلوم، وعدم الاعتناء بها عند ترتيب أولوياتنا التعليمية، وبالذات في كليات الشريعة، أدى بنا إلى قصور في المقابل في فهم عالمنا الذي نعيشه. فالواقع اليوم ليس هو كواقع الحياة بالأمس، وبالتالي فإن ما يحتاجه (فقيه) اليوم من أدوات ووسائل ومعرفة لفهم الحياة المعاصرة أصبح أكثر تعقيداً وتشعباً وتخصصاً مما كان يحتاجه من يشتغل بالفقه والإفتاء في الماضي. هذه حقيقة أعرف بدءاً أنها قاسية، ولكن لا مناص من الاعتراف بها.
فلا يمكن أن أتصور طالب علم شرعي، أو فقيهاً متخصصاً، لا يفقه - مثلاً - في نظريات (النقود والبنوك)، أو قانون (العرض والطلب) في الأسواق المعاصرة، أو علم وأصول (العلاقات الدولية)، أو ( القانون الدولي). فمثل هذه العلوم وغيرها أصبحت من الأساسيات التي يحتاجها اليوم الفقيه، ناهيك عن العالم الشرعي، أكثر من أي فرد من أفراد المجتمع.
ولنا في دولة (طالبان) التي كانت قائمة في أفغانستان عبرة لا يمكن أن نتجاوزها عند الحديث في هذه الشؤون، فلم تنتقل تلك الدولة من الوجود إلى الزوال، إلا لأنها لم تحفل بهذه المتطلبات كشرط ضرورة للبقاء والاستمرار، ولم يلتزم علماؤها ومنظروها وقادتها بشروط الحياة والمواكبة كما هي متطلبات العصر الذي يعيشون فيه. وعن دولة طالبان هذه يقول - مثلاً - أحد طلبة العلم لدينا وهو الشيخ حمود العقلا الشعيبي - رحمه الله - في معرض حديث له: ( إنها الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها محاكم قانونية، وإنما حكمها قائم على شرع الله ورسوله في المحاكم القضائية وفي الوزارات وفي الدوائر وفي المؤسسات)، ولو افترضنا - جدلاً - أن ما ذهب إليه الشيخ الشعيبي صحيح - رغم تحفظنا عليه من حيث الإطلاق - لكان السؤال الذي سيفرض نفسه بقوة وربما بقسوة في هذا السياق: هل مجرد وجود محاكم شرعية هو (شرط كفاية) لدولة الإسلام؟ أين السياسة، أين الاقتصاد، أين العلاقات الدولية، أين التجارة الخارجية، أين ارتفاع معدلات البطالة التي كانت متفشية هناك، أين الرفاه الاقتصادي، من هذه المعادلات؟ ثم ماذا عن مآل هذه الدولة في النهاية إذا كانت العبرة بالنتائج والمآلات؟ إن هذه الرؤية القاصرة في النظرة إلى متطلبات بقاء الدول، فضلاً عن نموها وازدهارها، في واقعنا المعاصر، لم تأتِ بكل تأكيد إلا من فراغ معرفي، كما أنها ليست قصراً على شيخ أو عالم بعينه، وإنما هي (ظاهرة) يشارك فيها للأسف أغلب المنتسبين إلى طلب العلم الشرعي.
يقول الإمام ابن القيم في (إعلام الموقعين) في شرحه لكتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري: (فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله). ثم يواصل قائلاً: (ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله). وغني عن القول أن فهم واقعنا اليوم - كما هو شرط ابن القيم - من أولى أولياته الإلمام بهذه العلوم ودراستها و(التفقه) فيها. وبهذه المناسبة يقول - رحمه الله - في نقد علماء زمانه:
يمدون للإفتاء باعاً قصيرة
وأكثرهم عند الفتاوى (يُكذلكُ)
وما أكثرهم بيننا اليوم الذين لا علم لهم إلا قول: (كذلك)!!
الأمر الآخر، الذي يجب أن نعترف به عند الحديث عن هذه المواضيع، أن تساهلنا إلى درجة التفريط في منح الدرجات العلمية في الشريعة، حتى العالية منها، أنتج لنا في النهاية (حفاظاً)، ناهيك عن علماء إلا القليل منهم وغالبية هؤلاء يعانون من قصور في الإحاطة بعلوم وثقافات العصر رغم أن بعضهم يحملون درجة (الدكتوراه) في الشريعة وعلومها. وليس هناك مبرر علمي لهذا القصور في رأيي إلا تهميش المناهج المعتمدة في كليات الشريعة، ومن في حكمها لعلوم العصر ومنجزاته النظرية.
كل ما أريدُ أن أقوله هنا إن مواجهة مشاكلنا التي نعاني منها، والتنموية منها بالذات، تبدأ من تلمس مواطن الضعف في بُنانا التعليمية والتربوية - أولاً - والانطلاق منها - ثانياً - إلى العمل بجد ومثابرة وموضوعية، وبعيداً عن المكابرة، إلى الإصلاح والتقويم والتطوير حسب متطلبات (الواقع) الذي نتعايش معه دون ذلك سنظل نعاني من هذا القصور في رأيي.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved