تزخر الدوائر العلمية بالسؤالات التي هي أقرب إلى المغالطة منها إلى الحقيقة، لأنها تفترض في ذهن المتلقي طريقين لا ثالث لهما، إما اليمين أو اليسار، أحد الاحتمالين صواب لا شك فيه، والآخر خطأ لا شك فيه.
ولأن كثرة من الناس يميلون إلى السهولة والتبسيط فإنهم يستروحون لهذه الافتراضات ويتجادلون حولها، فيتم فرزهم إلى فريقين أحدهما مع، والآخر ضد.
وتضيع في لجة هذه الخصومات معاني التمحيص والبحث الموضوعي والتفصيل الذي يمكن أن يرفض السؤال من أساسه، أو يقبل السؤال ويضيف إليه، أو يقبله ويفصل في الإجابة.
منذ البدايات الأولى لطلب العلم والبحث يتلقى الدارسون سؤالاً: هل الإنسان مسير أم مخير؟ وكأن الإجابة تنحصر في هذا أو ذاك، أما أن يكون السؤال غير علمي فهذا ما يغفل عنه الكثيرون.
وأما أن يكون الجواب مفصلاً، بحيث يكون المرء مسيراً ومخيراً في الوقت ذاته فهذا يعزب عن أذهان المجيبين أحياناً.
ونظير هذا السؤال التقليدي عن تقديم العقل أو النقل والجدل التاريخي حوله ما بين مقدم للعقل أو للنقل. بينما يمكن رفض السؤال من أساسه، لأن العقل والنقل ليسا نظيرين بحيث يمكن المقارنة بينهما، فالعقل آلة ووعاء، بينما النقل نص مقول.
وللعقل مداره وللنقل مداره، ويمكن أن يكون النص إطاراً يحكم حركة العقل في الغيبيات التي لا يملك آلية الوصول إليها.
بينما لا يتصور النص والنقل إلا بواسطة العقل الذي يستقبل ويفهم ويحلل ويقارن ويربط.
وثمت سؤال ثالث وثيق الصلة، وهو: هل الجهاد هجوم أو دفاع؟ وهذا كثيراً ما حير الباحثين.. بينما يمكن الانفصال من الموضوع كله جملة بنفي أن تكون القسمة ثنائية، وأن ثمت خيارين لا ثالث لهما، بل يمكن تفكيك السؤال، وعدم الاستسلام لدلالاته في أنه لا يوجد إلا أحد طريقين.
وقد حدثت بعض أفاضل العلماء في أنه يمكن صياغة مقصد الجهاد بعبارة أخرى، مثل أن يقال: إن الجهاد هو لحماية المشروع الإسلامي.
والحماية تعني بالضرورة الدفاع، ومبدأ الدفاع مسلم لا خلاف عليه بين أهل الإسلام، بل ولا غيرهم، فإن جميع الدساتير والقوانين الأرضية تعطي الشعوب الحق في الدفاع عن حريتها، ومقاومة الغزاة. فهذا قدر ليس عليه اختلاف.
ثم قد يكون من مقتضيات الحماية المبادأة بالهجوم حين تكون احتمالات الحرب مفتوحة، متى اقتضت مصلحة الدولة الاسلامية ذلك، فليس ثمت أحد يمنع من استباق ضربة العدو متى توفرت القدرة والقوة والامكان.
وها هي الولايات المتحدة تضرب في مناطق شتى من العالم باسم الاستباق وملاحقة الأعداء في عقر دورهم.
وها هي (إسرائيل) تسمي جيشها الغاشم (جيش الدفاع) ويضرب في سوريا ولبنان والعراق وغيرها. ليس هذا يعني تسويغ ما يفعله أولئك، وهم بمعزل عن تسويغنا ولا يشعرون بحاجة إليه، لأنهم يملكون القوة ويصنعون القانون ويضعون التعريف للإرهاب الذي يحاربون، والارهاب الذي يمارسون!.
لكن يعني أن نملك اجابة علمية رصينة تصلح للتداول والتعاطي في دوائر البحث والإعلام، وتظل بعيدة عن فرضية أننا نستعد لمحاربة العالم كله متى أمكننا ذلك، مما يجعلنا ندفع ثمناً باهظاً دون مقابل، أو أننا لا نملك ارادة الممانعة والاستعصاء على الغزو الذي ينتهك دولنا واحدة بعد أخرى.
إن حماية المشروع الإسلامي تعطي مساحة جيدة وواضحة لاحترام العهود والمواثيق والعقود التي أمر الله برعايتها، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، وقال جل جلاله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
وتسمح بالانخراط في سلم عادل يحفظ للمسلمين استقلالهم وحصانتهم، وليس في خنوع واستسلام ذليل لا تقبله الفطرة فضلاً عن الشريعة.
والحياة ملأى بمثل هذه المغالطات الثنائية التي يقع بسببها اللبس والايهام لدى كثير من العامة الذين يميلون إلى التعميم ويكرهون التفصيل، بل وبعض الخاصة.
وهي تمهد لدخول المتخصصين في المسائل الدقيقة وخوضهم فيها دون ادراك لأبعادها، ومواضع الاتفاق والخلاف منها.
وربما كانت المعارك العلمية أو الاعلامية التي تستنزف جهوداً كبيرة في التاريخ أو الواقع نتاجاً عادياً لمثل هذا التسطيح للقضايا الذي يفضي إلى التصنيف، واستقطاب الناس، وتحويلهم إلى فريقين متخالفين.
وقد أشار الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى أن أكثر اختلاف الناس هو من هذا الباب.
وأزعم أن العراك الميداني يجني كثيراً على المسائل الشرعية والعلمية فلا يتناولها الناس بهدوء العقل والنظر، بل يأخذونها بحرارة التعاطف والميل، أو ما يعرف ب (الهوى)، قال الله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ}.
وان الخلفيات المسبقة التي يحملها الناس تؤثر كثيراً في حكمهم ونظرتهم، وتحول بينهم وبين الصدق التام والنزاهة والأمانة، من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
ولعل من الكتاب من (يتعمد) الخلط والتلبيس، لأنه يدري أن في القراء من لا يملك آلية الفرز والتصحيح والتدقيق، وقد يغتر بزخرف القول، وينساق وراءه دون بصيرة، وهذا ظاهر في من ينطلق من أدلجة خاصة.
هذه سنة الله في العباد، ولعلها لا تزداد مع الزمن إلا شيوعاً واتساعاً، خاصة وهذا الوقت فتح على الناس فيه باب الاعلام الذي يقحمهم في مسائل متنوعة يصعب عليهم ادراك تفصيلاتها ومعاقدها وأصولها وفروعها، فصار من الطبيعي أن يتعاطى المجتمعون القول في قضايا سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو شرعية، ويعز على كل موجود بينهم أن يلوذ بالصمت، فليكن له موقف مع هذا القول أو ذاك، بينما محكم القرآن يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، ويقول: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
والحمد لله رب العالمين
|