في دراسة نشأة وتطور المستشفيات على مدى التاريخ يبرز دور رائد للمسلمين في بلورة مفهوم المستشفى الذي يتجاوز حدود مكان إيواء المرضى إلى دور أكثر فعالية في نشر الرعاية الصحية وقاية وعلاجاً.وفي وقت لا يمكن فيه إغفال دور الحضارات الإغريقية والهندية والرومانية والفارسية في التطور التاريخي للمستشفيات.. إلا أن الحضارة الإسلامية حققت نقلة نوعية مفصلية في مسيرة تطور المستشفيات وفق ظروف وإمكانيات العصور الوسطى.. حيث ظهر تنوع المستشفيات فكانت مستشفيات المدارس ومستشفيات السجون ومستشفيات السبيل التي ترافق الحجاج.. ومستشفيات الوقف التي يوقفها أصحابها لتقديم الرعاية الصحية والإيوائية للمرضى المحتاجين ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى (انظر كتاب مبادىء إدارة المستشفيات وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية - تأليف كاتب هذه السطور).
وكان المسلمون يوقفون أوقافاً لبعض المستشفيات، وللمسلمين عطاء واسع في مجال الأوقاف الخيرية بالمعنى الاصطلاحي للوقف وهو (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) وكان أول الوقفيات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وقف النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء عند قدومه مهاجراً إلى المدينة المنورة، ووقفه صلوات الله وسلامه عليه لسبع حوائط (بساتين) بالمدينة كانت لرجل يهودي.
* استقرأت تلك المعطيات التاريخية الرائدة، وأنا أقرأ خبر توقيع معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف الشيخ الدكتور صالح آل الشيخ ومعالي وزير الصحة الدكتور حمد المانع مذكرة اتفاق إنشاء (صندوق الوقف الصحي) بهدف التشجيع على فعل الخير وبذل التبرعات الطوعية في مجال الرعاية الصحية.
ولقد حدد معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف مهام (الصندوق الوقفي الصحي) في إيجاد الأوقاف على المجالات الصحية المتنوعة التي ترعاها وزارة الصحة، واستثمار هذه الأوقاف فيما يعود بالنفع على مجالات الصحة، وإيجاد مصادر دخل ثابتة للصرف منها على مشاريع صحية ترعاها وزارة الصحة.
ويعد هذا الاتفاق - في تصوري - خطوة تاريخية من مجلس الأوقاف الأعلى، ذلك أن هذه المبادرة تعني توسيع دائرة المجالات الوقفية، وهي كما قال معالي الدكتور صالح آل الشيخ يجب أن تشمل جميع المجالات التي يحتاجها الناس في حياتهم، مشيراً إلى أن الصندوق الوقفي الصحي يمثل جزءاً من منظومة يسعى مجلس الأوقاف الأعلى لتنفيذها في قطاعات تمثل احتياجاً ونفعاً ومنها إلى جانب الصحة التعليم.
يأتي ذلك في وقت ظلت فيه الأوقاف على مدى العقود الماضية محصورة في بناء المساجد.
وكما قال معالي الدكتور حمد المانع أثناء توقيعه الاتفاق، في ظل ظروف معينة عندما تتواجد في حي واحد مساجد عدة لا يفصل بينها سوى أمتار، فإن تشييد مركز صحي يكون أكثر نفعا لسكان الحي.
إن مجلس الأوقاف الأعلى بهذه المبادرة المواكبة لمعطيات مستجدة يريد - كما قال الدكتور صالح - أن يحيي لدى الناس مفهوم الوقف باعتباره اولاً مصدراً من مصادر التمويل للمشاريع التنموية ثم هو قربة إلى الله - جل وعلا -.
* ويمكن القول إن أهداف الوقف الإسلامي ظلت تشمل:
- امتثال أوامر الله عز وجل بالبذل والإنفاق.
- تحقيق مبدأ التكافل بين أفراد الأمة والتوازن الاجتماعي حتى تسود المحبة والأخوة ويعم الاستقرار.
- رعاية الحرمين الشريفين وخدمة الحجاج والمعتمرين.
- ضمان بقاء المال وبقاء المنفعة واستمرار العائد من الأوقاف المحبوسة.
- تحقيق أهداف تنمية المجتمع في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية وغيرها.
* والحقيقة أن الصندوق الوقفي الصحي يمثل بداية لإيجاد استثمارات ثابتة للمجالات الصحية في جميع أنحاء المملكة، وسيكون في الصندوق - بإذن الله تعالى - أموال تستثمر لصالح الأوقاف الصحية المحتاجة في مناطق المملكة جميعها.
* والواقع أن هذه الخطوة الرائدة تأتي في وقت تتزايد فيه الحاجة لبدائل تمويل خدمات الرعاية الصحية، فالصحة تعد أغلى ما يملك الإنسان ويظل المرض أكثر ما يؤلم الإنسان، ومن هذا المنطلق فإن (الصحة) تتقدم في سلم أولويات الناس.
والخدمات الصحية تواجه معضلة الزيادة المتسارعة في تكاليفها والطلب المتزايد على مخرجاتها، الأمر الذي أصبح معه القطاع العام يواجه ضغطاً كبيراً، وباتت مظاهر النقص تبرز في إمكانياته، وفي ذات الوقت فإن المعالجة في القطاع الخاص مكلفة ينوء كاهل ذوي الدخل المحدود عن تحملها.
الأمر الذي يستدعي ظهور بدائل جديدة لتمويل الرعاية الصحية لفئات المجتمع، ولعل من أهمها بإذن الله تعالى الأوقاف الخيرية.
ولقد نص النظام الصحي الجديد الصادر في 22-3-1423هـ في المادة العاشرة منه على أن يتم تمويل خدمات الرعاية الصحية عن طريق الوقف والهبات والتبرعات إضافة إلى ميزانية الدولة وإيرادات الضمان الصحي.
وأخيراً فإن هذه المبادرة التي لم تحظ بالتفاعل الإعلامي بالقدر الذي يتناسب مع أهميتها، تعد خطوة تاريخية رائدة تنتظر التفعيل المباشر لتنشر معطياتها الخيرة على سكان البلاد، داعياً المولى عز وجل أن يديم علينا كريم نعمائه إنه سميع مجيب.
|